المصلحة الجيبوتية فوق أي اعتبارات أخرى
|
|
شهدت منطقة القرن الإفريقي في الأسابيع الماضية تطورات متلاحقة خاصة بعد التحول المفاجئ في العلاقات بين إثيوبيا وأرتيريا وما تبع ذلك من الزيارات المتبادلة بين قيادتي البلدين والترحيب الشعبي بهما في كل من أديس أبابا وأسمرة والإعلان عن إنهاء حالة الحرب وفتح آفاق جديدة من التعاون بينهما.
لقد حظيت هذه المصالحة والخطوات الجريئة التي أقدم عليها رئيس وزراء أثيوبيا الدكتور أبي أحمد علي باهتمام وسائل الإعلام بشكل كبير واعتبرت خطوة شجاعة من طرف رئيس الوزراء الأثيوبي الجديد لانهاء عقدين من حالة اللاحرب واللاسلم والتوتر السائد في المناطق الحدودية للبلدين.
كما تناولت أقلام المحللين بالبحث والتحليل وأثيرت حولها أسئلة عديدة : ماهي الأسباب الحقيقية لهذا التطور المفاجئ والسريع في العلاقات بين البلدين بعد عشرين عاما من العداوة بينهما . وما هي الجهات التي تقف وراء هذا التقارب ؟ وما هي السيناريوهات المحتملة وتأثيرها على منطقة القرن الإفريقي ؟ وما هي الأطراف المستفيدة والمتضررة من هذه المصالحة؟ وما هي العقبات التي تهدد تنفيذ ها ؟
من جانب آخر، سارعت بعض الأطراف الإقليمية والدولية إلى إصدار تصريحات تنسب نجاح هذا التقارب ما بين البلدين إلا أن الموقف الأثيوبي كان واضحا وجاء على لسان الناطق الرسمي للحكومة الأثيوبية الذي أعلن صراحة أن هذه المصالحة جاءت بناءا على رغبة الدولتين بإنهاء حالة الحرب والدخول في شراكة لخدمة الشعبين والبلدين نافيا أن يكون لأي طرف ثالث دور في هذه التقارب.
وأيا كان الطرف المحرك لهذه المصالحة والأسباب الحقيقية لها فلا شك أنها تصب في مصلحة دول المنطقة وستساهم في إنهاء فترة طويلة من الحروب وستنعكس إيجابا على أمن واستقرار المنطقة بشكل عام. وقد رحبت جيبوتي بهذه الخطوة من رئيس الوزراء الإثيوبي لأنها تتماشى مع مواقفها المعلنة منذ اندلاع الأزمة في عام 1998 حيث كانت أول دولة تحاول احتواء الموقف لكنها واجهت موقفا متصلبا من القيادة الارتيرية.
ما يهمنا في هذه التحليلات هو محاولة البعض التقليل من موقف جمهورية جيبوتي من هذه التطورات وتهميش دورها ويصدر تكهنات حول مستقبل الاقتصاد الجيبوتي . وتوقع آخرون ان تفقد جيبوتي دورها المحوري التجاري في القرن الأفريقي بعد إعلان أرتيريا واثيوبيا على استخدام الأخيرة لمينائي عصب ومصوع الإريتريين في استيراد بضائعها ومنح امتيازات استثنائة لأثيوبيا.
يلاحظ القارئ لهذه المقالات والتحليلات أنها تفتقر إلى معرفة حقيقية للمنطقة وتاريخها وطبيعتها الاستراتيجية وتبني تحليلاتها على تكهنات بعيدة عن الواقع.
إن العلاقة بين إثيوبيا وجيبوتي علاقة استراتيجية وتحكمها مصالح مشتركة ما بين البلدين والشعبين الجارين وتشمل مجالات أوسع من الميناء.
إن جيبوتي وأثيوبيا مرتبطتان باتفاقيات ومعاهدات مشتركة لحماية المصالح المشتركة بينهما.
ومن المعلوم أن ميناء جيبوتي كان ولا يزال يخدم تجارة العبور لإثيوبيا قبل انفصال ارتيريا عن أثيويبا 1998 وكانت موانئ عصب ومصوع وقتها أثيوبية ومع ذلك كان ميناء جيبوتي يلعب دورا محوريا في التجارة مع الجارة، أثيوبيا ودول الجوار.
كما أن تطوير موانئ جيبوتي ليس فقط لخدمة إثيوبيا فقط ولكن لخدمة التجارة العالمية بحكم الموقع الاستيراتيجي لجيبوتي الذي يطل على مضيق باب المندب أكثر المناطق ازدحاما بالنقل البحري في العالم وبالتالي فهي موانئ منافسة ومجهزة بأحدث التجهيزات لإرضاء العملاء في السوق الأفريقية والعالمية.
مما سبق ندرك أن جيبوتي ليست متضررة من التقارب بين الجارتين إثيوبيا وارتيريا بل رحبت بهذه المصالحة لأنها ترى ذلك مكسبا لدول المنطقة.
الجدير بالذكر أن الخلاف بين جيبوتي وارتيريا سببه هو النزاع بين إثيوبيا وارتيريا حيث أرسلت دولة ارتيريا قواتها إلى منطقة دميرا الجيبوتية بحجة حماية أمنها من التهديد الأثيوبي.
كما اتهمت جيبوتي بأنها تسمح لإثيوبيا باستيراد أسلحة عبر ميناء جيبوتي وكانت النتيجة اندلاع المواجهة المسلحة بين جيبوتي وارتيريا. وبالتالي فان جيبوتي جزء لا يتجزأ من أي حل للمنطقة وأي محاولة لتهميش أي طرف في المنطقة لن يكتب لها النجاح.
وتدرك القيادة في إثيوبيا ذلك وهذا ما أعلنه ضمنيا الدكتور أبي احمد عندما قال إن السلام بين الدولتين مكسب لدول المنطقة.
من جانبها تناولت وسائل الإعلام العربية هذه التطورات بالتحليل وتحدثت عن دور محتمل لبعض الدول العربية في هذه المصالحة .وتحدث بعض المحللين العرب عن ثمار هذه المصالحة داعين الدول العربية إلى اغتنام الفرصة وأن يكون لها حضور قوي والعمل مع قيادتي أثيوبيا وأريتريا لخلق حالة من الاستقرار الأمني والسياسي في القرن الأفريقي.
وكأن هؤلاء الكتاب اكتشفوا الآن الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي بالنسبة للأمن القومي العربي وللاستثمارات العربية.
هل ينبغي أن نذكر هؤلاء بالدور المحوري الاستراتيجي لجيبوتي في هذه المنطقة ومواقفها التاريخية لنصرة القضايا العربية في المنطقة وأنها كانت ولا تزال صدا منيعا أمام محاولات إسرائيل للتغلغل في القرن الأفريقي وكان لها مواقف شجاعة للتضامن مع أشقائها في الخليج فيما يتعلق بالمواقف من إيران ودول أخرى تستهدف مصالح دول الخليج.
أليست جيبوتي جزءا من التحالف لإعادة الشرعية في اليمن ؟ أليست عضوا فاعلا في التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب ؟ لماذا يتغافل الكتاب العرب هذه الحقائق ؟
لقد اتخذت جيبوتي هذه المواقف الشجاعة رغم امكانياتها المادية والبشرية المحدودة وأحيانا على حساب أمنها ومصالحها الوطنية. كان لزاما على الدول العربية دعم إخوانهم في جيبوتي لمكافـأتهم على هذه المواقف. لكن ما نلاحظه هو عكس ذلك وما تقدمه تلك الدول لجيبوتي لا يرقى إلى مستوى آمال المواطن الجيبوتي. في حين أن بعض الدول الخليجية تهرول لضخ مليارات الدولارات لدول أخرى لم تكن لها تلك المواقف أو كانت متذبذبة في مواقفها.
أليس من حق جيبوتي إذا أن تبحث عن شركاء جدد لتحقيق طموحاتها في التنمية والتطور؟ وتطوير شراكتها الاستراتيجية مع الصين التي تمول مشاريع ضخمة تساهم في التحول الاقتصادي الكبير في البلد.
إننا كمواطنين ندعو المسئولين الجيبوتيين إلى عدم التردد في البحث عن مصالح الوطن ووضع المصلحة الوطنية فوق أي اعتبارات أخرى وإعادة النظر في علاقتنا مع دول أخرى مراعاة لمصالحنا دون الإضرار بمصالح أصدقائنا.
عبد الله محمد
كاتب جيبوتي
|