الحب كلمة ملأت قاموس الوعاظ كما لا تخلو منها قصائد الشعراء وتطفح بها الرسائل بين المحبين ، ونسج حولها الكثير من الحكايات والأساطير التي اختلطت فيها الحقيقة بالخرافة عن شهداء للحب وتضحيات من أجل الحب ، وهناك مجتمعات اتخذت لها إلها للحب تعبده من دون الله والعياذ بالله ، ولكن بغض النظر عن ما قيل وما يقال عن الحب سيظل الحب جمال الحياة وقلبها النابض ورونقها البهي الذي يعطيها الطعم والحلاوة وعبقها الشذى وعطرها الفواح ، وهو إثراء للروح بأجمل الأحاسيس وأروعها فهو أجمل شعور يجمع بين المحبين وشجرة وارفة الظلال يستظل تحتها كل من جمعهم هذا الشعور العظيم ، وهو ذلك الجسر الممتد بين بني البشر وذلك الرباط المقدس الذي يجمع بين قلوبهم وعقولهم . وللحب ألوان وأصناف ومن أصنافه حب الله الذي هو أعظم حب وأجله على الإطلاق والذي يقتضي طاعته وعبادته وحب نبيه الذي يتطلب إتباع أمره والسير على نهجه ، والحب الذي تكنه الأم لولدها وفلذة كبدها الذي تبذل من أجله التضحيات الجسام ،وهو الذي نراه في أعين الآباء وعلى وجوه الأطفال الصغار وفي عطف الحيوانات على صغارها .ومن ألوانه أيضا حب الوطن الذي يقتضي الدفاع عنه وحمايته والذود عن حياضه والعمل من أجل رفع شأنه والحنين إليه عند مفارقة ترابه .وهناك الحب الذي يجمع بين الجنسين وهو يتضمن إن كان حباً حقيقياً الاحترام المتبادل وصيانة قواعد الأخلاق والضوابط الشرعية ومن أجل هدف سام هو مشاركة الحياة وعمارة الكون . وهكذا فإن الحب يعطي لهذه الحياة كل ألوانها الجميلة ويبعث فيها الأمل والسعادة ، ولا يوجد مخلوق على وجه الأرض يستطيع الاستغناء عن هذه العاطفة النبيلة ولولاه لخلت الحياة عن كل معنى نبيل واختفت منها كل معاني الخير والرحمة واستحالت الدنيا إلى جحيم لا يطاق وعلقم مر لا يستساغ . وإلا من يتخيل أن يعيش حياة نزع منها الحب وحل محله البغض والعداوة والشحناء ،و ما نراه اليوم في عالمنا المعاصر من الحروب الدامية والصراعات المدمرة والنعرات القبلية والعنصرية المقيته والعصبية الجاهلية اليست سوى علامات وأعراض لمرض مزمن اسمه فقر الحب . يقول الأديب الكبير الراحل الدكتور نجيب الكيلاني رحمه الله : " لو عرف العالم طريق الحب لعرف طريق النظام والقانون والأخوة ، ولحلت الكلمة الطيبة محل الطرود الناسفة ولتحولت الخرائب إلى بساتين والحروب الطاحنة إلى مواكب للفرح والسعادة والإخاء الإنساني ، ولا ستحال سباق التسلح الرهيب إلى تعاون في إيجاد لقمة العيش للجياع ، ولعلاج المرضى ، والعلم للجهلاء ، ولاستحالت أوكار المؤتمرات والغدر إلى محافل للصفاء والبناء والعبادة .. إذا أردنا أن نكتب وصفة طبية لعالمنا المعاصر التعس فلن نكتب سوى دواء واحد هو الحب " . كم برع الكيلاني في تشخيص حال عالمنا المعاصر وكم أبدع في وصف العلاج لأنه الأديب والطبيب في آن واحد .
لحب كما أسلفنا هو هذه الكلمة الجميلة لفظاً ومعنى ومضموناً ولكن للأسف أصبح الحب عند كثير من الناس اليوم مجرد اسم يرددونه وكلمات معسولة باللسان لا تتجاوز حناجرهم ظاهرها الحب وباطنها المطامع الرخيصة ، وكم عبث أصحاب الأهواء الوضيعة والنوايا الدنيئة بهذه الكلمة الجميلة واستغلوها استغلالاً بشعاً حتى أصبحت رمزاً للانحلال والفساد وعنواناً للجشع والأنانية ، وكم من الناس اغتر بلسان مخادع وعبارات عذبة عنوانها الحب فلم يحصد سوى سراب ، وكم افترى على الحب ولصقت عليه تهم هو منها برئ براءة الذئب من دم يوسف . إنني أرباً بالحب من أن يدنسه من لا يفهم معناه ولا يؤمن به .
برخد عبدي جيدي