حين ننظر إلى العقد الماضي من رئاسة الرئيس الأخ إسماعيل عمر جيله بعمق وإنصاف فإننا لا نذكر كلاماً لم يقل ولا نرسم أسطورة غير معروفة عن تسامحه لكننا بثقة نقول إن جيبوتي لم تجد منذ مدة طويلة مكاناً للتسامح السياسي الاخلال العقد من رئاسته وما قدمه لم يتجاوز فكرة إعطاء الجيبوتيين القدوة في العفو والتعايش والإخاء لقد أمن حيزها في السياسة وألقى بذورها في قلب المجتمع ونقش ضرورتها في الوجدان الوطني ورعى نموها في التاريخ لعقد هو زمن التحول المتسامح والقوة الكامنة في الأعمال للتقدم نحو تطلعاتنا العظيمة، ويندرج مفهوم التسامح السياسي ضمن قاموس الأخلاق ويمكن اختيار التعاريف المختلفة كقيمة أخلاقية متبدلة عبر التاريخ ومتلونة بألوان وخصائص التطور الاجتماعي لكل شعب من الشعوب ونحن نختار تعريفاً للتسامح بأنه: هو احتمال الأفكار والاتجاهات والعقائد والقيم التي نبغض وبهذا التعريف نجد تجسيداً كثيفاً لها في تجربة عقد من قيادة الرئيس إسماعيل عمر جيله الذي جاء في لحظة تاريخية دقيقة وحرجة فرضت عليه الوقائع السياسية والاقتصادية وعناصر المشهد التاريخي وحاجات البناء المستقبلي ابتكار عنصر أو مبدأ التسامح كعامل مهم وأحياناً رئيسي في إستراتيجية دولة ومجتمع يتسمان بالتعقيد القبلي والفوضى وينزلقان نحو توترات سياسية واجتماعية أهم سماتها التاريخية صراع السياسات وتنافس القوى، وإضفاف وإبهات دور الدولة وتمزيق الوجدان العام وارتهان سياسي للخارج.
التسامح قيمة سياسية وثقافة وطنية وعنصر ضروري لبناء مشروع الوطني ووسيلة لحشد القوى للتأهب لتحديات ظلت تبرز في مسيرته جاء الأخ الرئيس إلى سدة الحكم كثاني رئيس للجمهورية من قلب الشعب الجيبوتي بعد حكم المرحوم حسن جوليد والاستعمار الفرنسي الذي أصحاب الهوية الوطنية والحس الوطني بالتهتك والغموض، جاء إلى السلطة وكانت السماء من فوقه ملبدة بالغيوم والأرض تفتك بها القبلية والقلوب محطمة والإرادات تتزاحم لتعميق حركة التاريخ عن التقدم ومؤسسة الرئاسة تتزاحم أيضاً، لم يكن أمامه تراث وتجربة يمكنه التعلم منها إلا يسيراً وكانت الأسئلة الملتهبة في عقله المنظور على صدق الرؤية ترسم أمامه تحديات واجهت من قبله الرئيس الراحل حسن جوليد الذي لم يخل من حنكة أو مهارة أو دهاء لكنه عرف بحدسه أن جيبوتي أكبر من أي دهاء وأعقد من أي مهارة وتحدياته تعي كل حنكة وفطن أن جيبوتي تحتاج إلى قلب بنفس القدر الذي تحتاج إليه إلى العقل والمهارة فاتخذ التسامح سياسية كعنصر للمهارة والحنكة ومصفاة ينقي الإرادة من الغطرسة وأداة كبح لغرور القوة، لم ينتزع التسامح كمفهوم أخلاقي وفلسفي من قاموس ولم يتعلمه على يد فيلسوف أو مفكر بل اكتشفه وأدرك قيمه من قاموس الشخصية الجيبوتية المتعددة ثقافياً والمتمايزة قيمياً واجتماعياً والمتنوعة سياسياً، وقد أصبح رئيساً لهذا التكوين التاريخي الذي تحتدم فيه الاختلافات القبلية على التوفيق وجد نفسه أمام الحاجة إلى التسامح الذي صاغه بلغته وحدد مركزه في المواجهات السياسية بنفسه وضبط قواعد تفاعله مع العوامل الأخرى المقررة لإرادة الحاكم بموهبة رجل فطر على أن يكون رئيساً قادراً على تمييز قيمة الموارد وتوظيفها عند الحاجة وحين نقرأ تجربة عقد نجد التسامح خطاً واضحاً يبدأ من يوم انتخابه إلى اليوم بصورة لا تخطئها العين لعقد المتغيرات والعواصف والأوقات الحرجة وأمام مسئوليات غير مسبوقة ومهمات معقدة جعلت الخطر في جميع الأوقات وجميع الأمكنة لا يبعد كثيراً عنه لكنه مع ذلك ظل يمارس التسامح سياسة بقلب يقظ وعين لا تفارق النظر إلى المصلحة الوطنية ظل يرقب سيرة القبلية التي تعصف بجيبوتي دون أن تنتج منتصرة ولكنها تهزم المشروع الوطني وتؤجل الحلم الجيبوتي وهو ما جعله يتيقن أن كلفة الخطأ في التسامح مهما كان باهظاً هو قليل إذا ما قورن بالتطرف الذي يدمر الأرواح والشعور بالشراكة الوطنية، أدرك الرئيس الأخ إسماعيل عمر جيله بحدسه أهمية التاريخ السياسي لمن سبقه في الحكم ومن يعيشون في المرحلة التاريخية معه في الوطن واستخلص لنفسه حقيقة مختبرة، أن الدهاء السياسي بدون تسامح يوقع الحاكم في كارثة المؤامرة التي تصبح نهجاً يتدرب الجميع على فن إتقانه وهذا يعجل في سقوط المهارة السياسية من غير تسامح تصحح مسرف للموهبة وتعجيل في إظهار الغموض وتحفيز الخصوص، إذا يغض الحاكم وجعل التطرف السياسي أو الكراهية نهجاً سياسياً إنما بذلك يعلم المجتمع التسلح بأنه الكراهية، وهذا يفسر الظهور المبكر لخصلة التسامح كبذرة طيبة رافقته منذ تبوئه السلطة المقرونة بحوارات مع جميع القوى الممثلة داخل مجلس النواب ومع المجتمع المدني والأطياف السياسية والمؤسسة العسكرية التي وجدت في موقفه استيعاب لجميع أطياف المجتمع واحتراماً لقناعاتهم للتوصل إلى تفاهم وتوافق المصالح وربطها بالمصلحة الوطنية العليا، ولا شك أن هذا السلوك قد تطور خلال العقد الماضي وتنوع منهجه وتعددت تجلياته لتصبح نهجاً تربوياً وثقافة سياسية تتجذر عروقها في العقل ويشمخ غصنها ليلامس الأطر والبنى والهياكل المختلفة في الدولة والمجتمع وينصهر في نسيج قضية الحرية والتعددية السياسية.
إن تسامح الرئيس الأخ إسماعيل عمر جيله مع من عارض انتخابه وتفهم من أرادوا اللعب بعنصر القبلية لحماية مصالحهم لكنه حل التناقض بمهارة وخبرة ليجعل المصلحة الوطنية أعمق تعبيرات تسامحه السياسي لذلك كشف عن القوة الكامنة في هذا المبدأ، وتعددت صورة التعبير عن التسامح وترددت في الحياة السياسية خلال العقد المنصرم مفردات العفو الشامل واكتسب الحوار صورة التقليد السياسي الذي نفس الاحتقانات والتوترات وشهدنا كم تعالت في الشارع مشاعر الاحتجاجات في زخم متعدد الألوان متمايز الهيئة لتحول ديمقراطي كانت الخطوة الأولى بتأسيسه عام 1999م لأنها الخطوة التي هيأت المجتمع نفسياً وعقلياً لروح التسامح التي بذرت في قلب عاصفة وفي تربة تاريخ اختلاف الأحزاب، ولهذا اتخذت التسامح السياسي في خبرته مفهوماً ملموساً مرتبطاً بالوقائع التاريخية ويستند إلى عقلانية سياسية تتوخى نتائج عملية تحافظ على الثوابت وتتشبت بالإستراتيجية بمعنى أن تسامحه لا يمس إلا أساليب وطرق حل النزاعات وتسوية الخلافات والتعارضات في الآراء المتجانسة بهذا المعنى لا يهدد التسامح السياسي الإخلاص للمصلحة الوطنية بل هو استعداد لاختيار الحجج وتمكين الآخر من الدفاع المقنع عنها ومشروعية هذا الموقف يقاس من زاوية مصلحة الوطن أولاً ودائماً التسامح بهذا المفهوم أعلاء من شأن الإقناع وإحلاله مكان الإكراه وفتح الأطر للشرح والإيضاح كبديل للتدبير الإداري والقانوني والأمن أو بمعنى آخر استخدام التسامح كرديف لمفهوم الناظم والضابط للتوازن بين المصالح المتعارضة خلال رحلته القيادية، عرف سلوك الأخ الرئيس مفهوم التسامح السياسي باعتباره تكييفاً فعالاً مع حاجات الإستراتيجية السياسية وتأمين طاقة الفعل التاريخي المتفتح على القوى والاحتمالات الإيجابية ليضفي سحراً على موهبته في القيادة وأداة قيمة لصقل مهارته في إدارة المؤسسات ومنهجاً يطور الرؤى وينفتح على الأفكار غير المدروسة والملكات الدفينة في واقع تعصف به الأفكار القبلية، برهنت ذلك خبرته خلال عقد أنه يعرف التسامح السياسي كقيمة أخلاقية وحاجة إنسانية وأداة سياسية لا تعني التساهل والترافي أو التواطؤ ضد الحكم الوطني التسامح جذوه الحزم وغابته إنقاص كلفة الهدر الاعتباطي لهدف الأيديولوجيات وقوت الأوهام بهذا كان الأخ الرئيس إسماعيل عمر جيله.
متسامحاً لأنه رفض أن يكون أجيراً سياسياً لأيديولوجيات وطنية أو دولية بل هو يحتمل أصحابها ويبحث معهم عن قواسم مشتركة وبرهن أن هذا الفهم فعال وجزء من الحاجات السياسية للقيادة ومع مرور الزمن تحول التسامح من عنصر قيمي إلى نهج سياسي.

عبد الرحمن حسن رياله