كنا نتجاذب أطراف الحديث وكل منا يدلي بدلوه .....كلام في السياسة نختلف فيه بصخب حول التطورات والتحولات التي تشهدها المنطقة وحول الدين والتاريخ ومسلسل عمر ابن الخطاب ولكن أكثر الحديث إثارة وتأثيرا هي قصة صديقنا من بلد عربي شقيق مع العشر الأواخر من رمضان ولأننا في رحاب هذه الأيام المباركة أحببت أن تعيشوا معي في أجواء هذه القصة المؤثرة.بدأ صديقنا قصته بقوله : لا أطيل عليك الكلام، ركبت (عنادي)، وأصررتُ على أن أرَى ذاك الشَّابَّ الذي سيبذل لي كُلْيَته، وأن أجلس إليه قبل أن يلبس كلانا اللِّباس الأبيض، أريد أن أرَى وجه هذا الذي سيعطيني قطعةً منه، حتى لو كان هذا العطاء بثمنٍ، فأيُّ ثمنٍ سأدفع لإنقاذِ حياتي سيكون ثمنًا بخسًا، ولا تسألني عن: ماذا نويت أنْ أفعل إذا ذهبت له؟ كلُّ ما أعرف هو أنني أردت أنْ أراه.وجدتهم يحاولون صرفي عن ذلك بكلِّ وسيلةٍ، وبكلِّ لطفٍ، ويقولون: إن هذا غير معتادٍ بين المريض والمتبرِّع، إلاَّ أني قلت: أراه، أو لا شيء.أخذتُ العنوان منهم كتابةً ورسمًا، وركبتُ سيَّارتي؛ حيث أعرف وجه المكان،.وبعد مدَّةٍ، وأنا في سيري على وصف الرَّجل في المسار الثُّعبانيِّ
ومررتُ بين جماعةٍ من الأطفال يلعبون حُفاةً عليهم الأسمال، ودهشتُ من ضحكهم ومرحهم وهم يلعبون سعداء، لا يشعرون بالضِّيق ولا بالكبت ولا بالعوز، ولا يتخوَّفون من مستقبلهم الذي لا يعرفه إلاَّ الله.وها أنا ذا الآن أمام باب: بيت الرَّجل الذي سيُقطَع منه جزءٌ لأجلي.وقد تسمَّرتُ طويلاً هناك، يدي لا تطاوعني بالدَّقِّ على الباب، وما العمل؟ هل سأقف هكذا بعد كلِّ هذا؟!ثمَّ إذ بامرأة شابَّة جادَّة سمراء، ترتدي خمارًا مُسدَلاً، تفتح الباب وتخرج ، تخطَّتني وكأنها لم ترني، إنَّها إذًا تهرول لتنفذ من الأزقَّة إلى ناحية الشَّارع العامِّ والمارَّة والمشاغل والورش؛ حيث يوجد من لديه مالٌ يشتري به بضاعتها البسيطة، ، لقد دقَّتْ ساعة الصِّفر عندها: نصف السَّاعة الذي يسبق آذان المغرب والإفطار.وأردف يقول : لا أطيل عليكم، سألتها من خلفها عن ضالَّتي: ، وما وجدْتَني إلاَّ وقد سألتُ امرأته، التفتتْ وقالتْ: ذلك، ثمَّ سكتتْ واجمةً، ثمَّ ابتسمتِ ابتسامةً مؤدَّبة بمشقة، وارتبكتْ محتارةً بين أن تقودني إلى زوجها أو تذهب ببضاعتها؛ لتتكسَّب بها شيئًا يسدُّ الرَّمق؛ إذ أخذتْ تبدِّل نظرها بين الباب والسَّبيل، وأُعجبتُ بخوفها على مصدر قُوتها.ثمَّ طلبتُ منها شراء كلِّ أكياسها، وأعطيتها مبلغًا جيِّدًا، ، ومشتْ أمامي جادَّة، ومحتارةً على ما يبدو بين أن تحتقرني أو تنظر إلَيَّ بتقديرٍ، وخيِّل إليَّ أن في عينيها دمعًا خفيفًا رقراقًا لامرأةٍ اعتادتْ على أن تكبح مشاعرها.ودخلنا من بعد الباب إلى ممرٍّ داخليٍّ بين الغرف بعرض مترٍ، طلبتُ منها أن تخبر زوجها أنني جئتُ لأفطر معه، فدخلتْ، وتركتني أمام باب مسكنهم، فوقفتُ أجول بنظري بين ما يقع حولي من معالم عالَمٍ مدهشٍ مُخشوشنٍ.وأنا في حالتي هذه ، إذ بالمرأة تستدير من داخل، وتطلُّ عليَّ وتشير لي بأدبٍ بأنْ ألِجَ من الباب الذي عن يميني وأنتظر زوجها هناك، وخرجتْ بمنفضةٍ، ونفَّضتْ الكراسي والكنبة بهمَّةٍ وحرجٍ، ودعتني لأن أجلس، فجلستُ ما بين البقعتين وطرحتُ علبة الطَّعام الكرتونيَّة على الكرسيِّ المجاور، بينما كان الغبار قد تهيَّج في جو الفناء حولي.ثمَّ كانت بانتظاري مفاجأةٌ، لا أستطيع أن أصف لك مقدار خزيي واحتباسَ أنفاسي وتهدُّل كتفي، وكيف سقط وجهي إلى الأرض، لَمَّا رأيتُ الرجل أمامي، وعظم تَرقُوتيه يظهر مثيرًا للشَّفقة من جلبابه الأبيض المهلهل، يستند على عكَّازتين مشلولاً.وحكى لي كيف أنه كان يعمل بكلِّ جدٍّ وأمانةٍ بمستودعٍ بأحد المصانع، وبراتبٍ زهيدٍ، حامدًا شاكرًا، وقد استغنَى عنه المالك الجديد منذ شهرٍ، وقال: أنْ لا فائدةَ تُرجى من وجودي.ورفع رأسه لأعلَى كمن يحاول أن يسيطر على مشاعره ويتأبَّى على الدَّمع، لكنه لم يستطع، دمعتْ عيناه، فنظرتُ إلى عينيه وهو يُحاول أن يرفعهما عن بصري، فدمعتْ عيناي أيضًا، فأخذت أطيِّب خاطره، وأواسيه؛ ثمَّ استغرقنا في حديثٍ وُدِّيٍّ رقيقٍ، كأننا متعارفان منذ زمنٍ بعيدٍ، أحاول أن يكون حديثنا خفيفًا يبعث على السُّرور.ثمَّ نظرتُ إلى الساعة، وطلبتُ منه أن ينادي زوجه؛ لتضع لنا طعام إفطارنا، ولقد جاءتْ، وأخذتْ من العلبة ووضعتْ لنا طعامنا، وتحرَّكتْ بها كنحلةٍ نشيطة، توزِّع الطَّعام على جيرانها الجُنُب وهي سعيدةٌ بأنها تسرُّهم، ثمَّ دخلتْ لتأكل في بيتها ما أبقتْ، وما كنت أظنُّ أن أحدًا قد بقِيَ على وجهها ممَّن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ، ، ثمَّ شربنا الشَّاي أنا والرَّجل، ومزحنا وسمرنا، وتوضَّأتُ من ماء الزِّير، وثمَّ إننا ذهبنا معًا لصلاة العشاء والتَّراويح، في مصلًّى صغيرٍ بالحيِّ، وقد ذكَّرنا الإمام بأننا في العشر الأواخر، وأنَّ علينا أن نتحرَّى ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهرٍ، وأن نتقرَّب إلى الله بالأعمال الصَّالحة، وذكر لنا حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلمٍ))، فتمنَّيتُ أن أتقرَّب إلى الله في هذه الأيَّام المباركة بأحبِّ الأعمال إليه، ثمَّ صلَّيتُ، ، وصاحبي عن يميني يرتجف في الدُّعاء، فبكيتُ له، ثمَّ بكيتُ لنفسي، ثمَّ إنِّي شعرت بنورٍ يغسلني وسط المساكين.
خرجنا من صلاتنا وسرنا إلى بيته، وأنا خفيف النَّفْس، وقد امتلأ قلبي - من عند الله - حبًّا للرَّجل، ودخلنا بيته، وبينما كانت زوجه تقدِّم لنا كوبين من التَّمر الهنديِّ الذي اشتريته منها، أعطيتُ ظهري للحبيب، وكتبتُ له شيكًا مصرفيًّا بألفي دولار وأعطيته إيَّاه، وقلت له: أنْ لا حاجة لي إلى كُليَتك يا صاحبي، وتلجلج كأنَّما لا يصدِّق، وبدأتْ يداه ترتعشان من وقع الخبر عليه، فقلتُ له باسمًا وأنا واثقٌ من أنني لن أعود فيما أعطيتُ، وأنِّي وُقِيتُ اللَّيلة شحَّ نفسي: لعلَّها ليلة القدر.وتركتهما من خلفي يبكيان فرِحينِ، يربِّتان على كتف بعضهما بعضًا، يخرجان من صدريهما آهاتٍ تذيب الحجر، ويدعوان لي برضا الله والجنَّة وحسن الختام، حتى أصاب جسمي بردٌ وقشعريرة من دعائهما، ودمعتْ عيناي، ومِلتُ إلى الأرض،
ومشيت سعيدًا سعيدًا، كان قريبًا جدًّا.وختم صاحبنا قصته : تلك - يا أصحابي - حوادث اللَّيلة السَّعيدة التي سبقتْ زيارتي للطَّبيب، الزَّميل لأكبر كليَّات الطِّبِّ بالعالم، والذي خرج إليَّ مندهشًا مسرورًا بنتائج الفحوصات التي تؤكِّد سلامة كُليَتي كلَّ السَّلامة، وهو يسبِّح لله مختلج الشَّفتين.
جمال احمد ديني