تعاني الكثير من المجتمعات من بعض الظواهر السلبية المختلفة كالتفكك الأسري وارتفاع معدلات الجريمة وانحراف الأحداث والطلاق والبطالة والتسول، وكما هو معروف فإن كثيرا من الظواهر تظل بسيطة وكامنة أما إذا انتشرت وتطورت أصبحت تشكل خطورة على المجتمع وهددت أمنه واستقراره وانعكست بآثار سلبية عليه، فإنها تصبح مشكلة يجب التصدي لها ومواجهتها ومثال ذلك ظاهرة التسول التي هي محور حديثنا في هذه العجالة .
ما أن تخرج الشمس من مخبئها وتصافح الأرض بأصابعها الدافئة وتغمر البشر بنورها الساطع وتبث فيهم النشاط والقوة حتى يهب كل واحد إلى عمله طلباً للرزق ولطلب الرزق في هذا العصر أشكال وفنون فالبعض يكدون ويشقون حتى يوفروا لقمة العيش الكريمة لأنفسهم ولأهلهم والبعض الآخر ينتظر ما تجود به تلك الأيادي الكادحة من فرنكات فكم صادفت في الشوارع هؤلاء الأطفال الحفاة الشبة العراة الذين يلتحفون السماء ويفترشون التراب أحزنك منظرهم الباكي وتمنيت لو تبرعت لهم بكل ما تملك أو تمنيت أن يكون لديك مال قارون فحينها لن تتردد عن كسوتهم وإيوائهم وإطعامهم وكم أدمت فؤادك صورة ذاك الشيخ الطاعن في السن وتلك العجوز التي انحنى ظهرها وفقدت نور بصرها وبعضاً من سمعها فعضضت شفاهك آسفاً واحمرت واغرورقت عيناك دمعاً وتمثلت بقول سيدنا علي بن أبي طالب "لو كان الفقر رجلاً لقتلته" لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو "هل كل هؤلاء الذين نراهم صباح مساء أخرجتهم الحاجة أم أنهم امتهنوا التسول وفضلوا مد الأيادي للآخرين بدلاً من عرق الجبين" الجواب هو نعم: فالحاجة والعوز أخرجت هؤلاء من ديارهم وأجبرتهم على طلب الإحسان من الآخرين رغم أن الكثير منهم يتمتعون بالصحة والقوة والشباب، لكن تعددت الحاجات والتسول واحد، فهذا يتسوّل ليجد ما يسد به رمقه ورمق عياله وذاك يبحث عن ثمن الدواء، وذاك يتسول ليضمن ثمن القات او المخدر، وذاك يكنز ويحوش الفرنكات ولسان حاله يقول الفرنك الابيض ينفع في اليوم الاسود، ومتسول اليوم يختلف عن متسول الامس الذي كنا نراه غريبا رث الثياب مغبر الوجه نحيل الجسد فكثيرا ما نراه متأنقا مثقفا في بعض الاحيان لحوحا في الطلب فهو لا يغادرك حتى يحصل على مراده والغريب انه يحدد المبلغ الذي يريده، ويحاصرك من كل الجهات فمرة يأتيك طالبا"اللحاق بالباص"ومرة ثمن العشاء ويحدث ان تصادف الواحد في اليوم اكثر من مرة ويطلب منك نفس الشئ في كل مرة و يعتبر التسول آفة من أكثر الآفات الاجتماعية التي تثير الفوضى وتسيء للمظهر الاجتماعي العام للمجتمع، ونظرا لأن المتسولين أصبحوا متمثلين لطريقة حياتهم ومتكيفين مع الدور الذي يلعبونه في المجتمع والذي يساعد على تشكيل اتجاهاتهم نحو الناس وطريقة الحياة ونوع النشاط المرغوب، بحيث لم يعد من السهل تغيير اتجاهاتهم كما أنهم ينقلون أنماط حياتهم لبعضهم ولأبنائهم في سياق عمليات تفاعلهم الاجتماعي مع الآخرين، وتنشئتهم لأبنائهم، ا كما يساهم في نشر الجريمة وادمان المخدرات فعندما لا يجد المتسول ثمن المخدر بالاحسان فانه يطلبه بالطرق غير المشروعة كالسرقة وقد يرتكب جريمة اكبر من السرقة كأن يقتل او ان يتسبب بعاهات دائمة للآخرين،كما ان التسول يزيد من اعداد اطفال الشوارع هؤلاء الابرياء الذين امتهنوا التسول منذ ان فتحوا عيونهم على عالم الجريمة وادمان المخدرات،فنرى الواحد منهم مادا يده اليوم بطوله لاليشتري به طعاما او قطعة حلوى انما ليجمع ما يشتري به مخدرا ينسيه الآم وكآبة الواقع الذي يعيشه وكعلاج اولي يجب علينا ان لا نعطي مالاً لهؤلاء الأطفال حتى لا يشجعهم على ذلك التسول وبدلاً من ذلك يجب أن نشتري لهم طعاماً أو وبذلك نساعدهم في إيجاد حلول أو إن كانت رمزية لهذه الآفة، ويُعّد التسول مشكلة شديدة التعقيد وعلى المجتمع أن يوجد الحلول المناسبة التي تساعد على الحّد من انتشاره وإعادة تأهيل هؤلاء وتكييفهم مع الأنماط السلوكية التي يرغبها المجتمع حتى يتخلصوا من تلك الأنماط السلوكية التي تعودوا عليها وأصبحت تشكل خطورة على المجتمع ومما لا شك فيه أن الأمر قد أصبح بحاجة إلي وقفة تأمل تقودنا لمعالجة موضوعية وعملية لهذه الظاهرة تمكننا إبتداءا من إفساد هذه العلاقة الحميمة القائمة بين نفر من الناس ومد اليد التي باتوا يستمرئونها رغم أن مظاهرهم لا تشي عن فقد واستحالة توفير البديل بالتأكيد يحتاج الأمر إلي جهود أكبر يتطلب مساهمة الجميع للأشتباك مع البواعث والدوافع والأسباب الموضوعية المبرزة لهذه المشاهد المستفزة والمحزنة في آن معا فالسؤال مذلة أعطوك أو منعوك و الحاجة قاهرة والشح أيضا آفة قاتلة .

جمال أحمد ديني