طرق مسامعي قبل يومين خبر فزعت فيه بآمالي إلى الكذب ، وبادرت فيه إلى إغلاق فم قائله ، ولكن قدر الله وما شاء فعل ، وكل شيء عنده بمقدار ، ذلك الخبر هو خبر وفاة أبينا وشيخنا ومعلمنا الأستاذ إبراهيم الشريف الذي لا يمكن لي أن أفي حقه ، وأرد فضله ، بنثر كلماتٍ على ورق ، وتسويدِ صحفٍ بعبارات ، فقد كان شخصيةً من أكبر الشخصيات التي كان لها نصيب الأسد في تكوين شخصيتي ، وتراكمي المعرفي والثقافي .
أستاذ إبراهيم الشريف كان أستاذا كبيراً من أساتذة اللغة العربية وأسطوناً من أساطين البلاغة والنقد في منطقة القرن الإفريقي بعامة و جمهورية جيبوتي بخاصة ، وقد قضى فترة كبيرة من عمره في تخريج الأجيال تلو الأجيال في المعهد الإسلامي في جيبوتي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، وكنت ممن تعلموا على يديه كثيراً من مواد اللغة العربية ، ونهلوا من معينه ماء اللغة العربية صافياً خالصاً ، فقد درَّسني سنين أربعة متوالية ، وكانت تربطني بالأستاذ علاقة حميمة لن أنساها مهما تطاول الزمن ، فقد كان يتخولني بنصائحه الأبوية بين الفينة والفينة ، وكلما لاحظ مني تقصيراً أوطيشاً أو فتوراً- صفة الشباب الأغرار- بادرني بالتوجيه والإرشاد ، فكنت أنا أيضاً أذعن لتلك التوجيهات والنصائح ، وأعمل بمقتضاها .
كان للأستاذ صفاتٌ ونعوتٌ قلما تتوفر في أمثاله ، ولذلك كان يحبه الجميع ويقدرونه ويعتبرونه أباً روحياً ، وموجهاً تربوياً ، فكان يقوم بنصيحة كل أحد ، وإشارة كل مستشير ، دون تمييز بينهم لا على حسب الأعراق ولا على حسب الطوائف ، فكان الناس كلهم عنده سواسية ، و من الصفات التي عرفتها في الأستاذ القدير أنه كان يدمن القراءة إدماناً منقطع النظير ، فلم يكن يفارق الكتاب يده ، حتى أن أحد أصدقائي الظرفاء وهو أيضا ممن تتلمذ على يديه قال عن الأستاذ : " إن القيامة ستقوم إذا رأيتَ الأستاذ إبراهيم الشريف لا يحمل كتاباً " وهذه صفة ناذرة في مثقفي المنطقة فضلاً عن متعلميهم ، ومن أوصاف الشيخ التي عرفته بها أنه كان يحب اللغة العربية حتى النخاع فقليلاً ما كان يتحدث بغيرها حتى مع أولاده وذويه ، وقد كان يخيل إلي في بعض الأحيان أنه لا يحسن اللغة الصومالية ، فحصل في يوم من الأيام أن اتصل به أحد أقاربه ممن لا يعرف اللغة العربية وهو معنا في الفصل يدرسنا ، فكلمه اضطراراً بالصومالية ، فكان أمراً غريبا بالنسبة لي ، ومن صفات الأستاذ التي لا تنمحي عن الذاكرة أنه لم يكن يكتفي بتدريس المقرر للطلاب كحال كثير من المدرسين بل كان رجلاً له أهداف ومبادئ كان يعمل على نشرها وصقلها ، فكلما سنحت له الفرصة كان يرشد أبنائه ويوجههم إلى ما ينفعهم في مستقبلهم وفي حياتهم الحاضرة ، فكان يحرضهم على تحسين علاقاتهم بخالقهم ، وعلاقاتهم بأقاربهم وعامة الناس ، كما كان يحثهم على تكوين أنفسهم ليكونوا أرقاماً صعبة في الحياة ، وكان يحذرهم من كل ما يحط من شخصياتهم ، ويحطم حياتهم من المخدرات وغيرها ، إلى غير ذلك من الإرشادات والنصائح التي نفع الله بها من نفع .
ولي مع الأستاذ مواقف لا ينسيني إياها الزمن ، ولا تزول من ذاكرتي بيسر وسهولة ، من تلك المواقف أنني كنت مرة أنتظر منحة دراسية متأخرة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي أنا الآن طالب فيها ، فكنت أسعى بدون هدف محدد ، محطم القلب ، منهوك الفؤاد ، فقابلني مرة وسألني عن حالي فوصفت له ، فعرض علي العمل في مجمع الرحمة التنموي الذي كان يعمل فيه كمرشد تربوي ، لأكون مدرساً فيه لمادة الخط العربي فقبلت بذلك ، وقبل أن أبدأ العمل فيها انتهت إجراءا ت قبولي في جامعة الإمام ، فلم أكن أنسى له هذا الجميل ، وكنت أزوره في كل صيف حين أرجع إلى جيبوتي ، وأستنير بنصائحه و وأفكاره ، وإرشاداته .
رحم الله الشيخ الفاضل والأستاذ القدير ، وأدخله فسيح جنانه ، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان ، فقد كان أباً حنوناً ، ومفكراً كبيراً ، ومرشداً تربوياً ، نفع الله به الأمة أيما نفعٍ ، فنسأل الله أن يجعلنا ممن ينتفعون بعلمه ، ويتخذون من فكره النير نبراساً ، ويتصفون بالصفات التي جعلت منه جبلا شامخا في أعين الناس .