جميل جدا.. أن يبذل الشخص كل طاقاته ليحقق طموحاته أو مشاريعه طالما كانت هذه الطموحات أو المشاريع تتحقق بطرق مشروعة وصحيحة أي لا تكون على حساب الآخرين .. ونحن في بلدنا الفتي النامي في أمس الحاجة إلى كل يد تبني .. وإلى كل عقل يفكر .. وإلى كل جهد يُصرف في سبيل تنمية الوطن من كل جانب من جوانبه ..ولكن ما هو ملاحظ أنّ البعض ولا أعمم.. ــ والتعميم في الأحكام كما تعلمون أيها السادة أمسى كارثة الكوارث في حواراتنا ونقاشنا ــ أقول البعض يهرول وكأنه على خط النهاية من الجولة الأخيرة في سباق الحصول على درجة " الدكتوراه " .. فما لنا لا نرى ولا نلمس في واقعنا لهذه الشهادات العالية العلمية أثرا علميا ، ولا لهذه العقول الباحثة صدىً عمليا أو حتى نظريا ! فالمطلوب من هذه القامات العلمية حراكا علميا وثقافيا يسهم في تنمية معارف أفراد المجتمع ومداركه ويضع بلدنا على طريق التنمية العلمية والعملية .. فأين هذا " الكادر" العلمي الذي يسهم في نقلنا من دائرة ما هو حسن إلى الأحسن منه ومن دائرة الفضل إلى ما هو أفضل وأرحب منه.. وكأننا توقّفنا عند نقطة " د " ! ــ أقصد أننا اكتفينا بلقب الدكتور ــ وفي هذا الصدد من الجميل أيضا ..أن نتذكّر أجواء القصة اليابانية الشهيرة قصة ( تاكيو وأوساهيرا ).كان (أوساهيرا) واحداً من جملة طلبةٍ ابتعثتهم اليابان للدراسة في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية. وما كان يميز هذا الطالب عن أقرانه أنه كان يبحث عن (مشروع عملي ) ونتيجة عملية، ورفضَ أن يقتنعَ بالكلام وحده. درس كثيراً من نظريات الميكانيكا، ولكنه كان يشعر أنه لم يدرس شيئا لأنه ببساطة لم يتمكن بعدُ من صنع محرك ! ما قيمة أن تدرس كل تفاصيل المحرك وآليات عمله وأنت عاجزٌ عن تفكيك محرك فضلاً عن تصنيع محرك ! لأجل هذا صرف النظر عن ( الدكتوراه ) ودفع راتب شهر كاملٍ لشراء محركٍ صغير، ثم عكف عليه حتى تمكن من تفكيكه وإعادة تركيبه. كانت خطوة جبارة ولكنه كان ينظر لأبعد من هذا.. أخذ محركاً معطَّلاً، وفككه واهتدى إلى علتِهِ، وكان إصلاحه يقتضي تركيب قطعة معدنية جديدة، فلم يرضَ بشراء قطعة جاهزة، بل ألقى ثياب الطلبة ولبس ثياب العمال وانخرط في مصانع الصلب سنين ذوات عدد حتى تعلم كيف يصنع مايريد، وأصلح المحرك. كانت خطوة ثانية جبارة .. ولكنه كان ينظر لأبعد ..عاد إلى بلاده واستمرّ في كفاحه حتى استطاع أن يصنع – ولأول مرة- محركاً يابانياً خالصاً يعمل بكفاءة عالية. كان هذا المحرك نواة الثورة التقنية اليابانية التي نراها اليوم.وكان هذا الطالب الذي حشر نفسه في طوابير العمّال باعثاً ضخماً من بواعثِ الحضارة اليابانية التي استطاعت أن تقول للعالم بجدارة : أنا هنا. ما يسترعى الانتباه في خبر ( أوساهيرا ) هو إصراره العجيب على أن يكون لديه ( مشروع عملي ) وأن يفضي هذا المشروع إلى ( نتيجة ) حقيقية ملموسة.. أكثرنا لديه طاقة لامتناهية في الكلام أو الاستماع لمن يتحدث.. ولكن الأقل من لديه العزيمة الجادة على أن ينخرط بجد في صفوف العاملين.. وإلى أيِّ مدى لدينا استعداد لأن نؤسس مشاريع عملية .. بعبارة (ميكانيكية) .. إلى أي مدىً لدينا رغبةٌ في صناعة ( محرّكات عمل) تشغّلُ طاقاتنا وتستنفر جهودنا في مرضاة الله ؟ إنّ ثقافة (المشاريع العملية) قبل أن تكون إرثاً يابانياً هي مفهوم إسلاميّ ومنطق قرآني وسنةٌ نبويةٌ .فنحن مأمورون بالعمل: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ).. ومنهيون عن دعاوى العمل: ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالاتفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ).. وموعودون على أعمالنا بالأجر: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ).. بل ومطالبون بالعمل إلى آخر لحظة : ( إن أقيمت الساعة وبيد أحكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل )
شاذلي الحنكي