كانا يتجاذبان أطراف الحديث دون أن يبدو على أحد منهما أي من الانفعل وقد كاد الفتور يتسلل إلى جلستهما. في هذه الأثناء دخلت فتاة متوسطة القامة .. مرفوعة القوام لونها أبيض يميل إلي الحمرة .. شعرها أسود قصير مبعثر في خصلات هنا وهناك .. في عينيها السوداويين بريق أخاذ .. صدرها بارز ونداها نافران .. كانت تلبس سروال جينز يظهر تفاصيل ما تحته وفانلة زرقاء مشدودة وعندما اقتربت منهما ابتسمت وبانت أسنانها البيضاء المتناسقة .. فائقة الجمال .. غطت المكان بنور شفاف وحضور غامر .. كانت تتبادل الابتسامات والقفشات الضاحكة مع صاحبتها ( سيمن ) التي هي الصديقة القديمة لصاحبنا الذي تعود أن يهرع إليها كلما زحف إلي قلبه الضجر والملل ..

ثلعثم صاحبنا .. اختلط عنده الحابل بالنابل لم يدر ما يفعل .. حاول أن يصطنع بعض الحركات المكابرة للفت انتباهها لكنها كانت كالسيل يكتسح ما أمامه .. لم تتأخر الفتاة أمطرت المكان كالسحابة ومضت .

لم يكن صاحبنا يحب الواسطة في الحب كما يقول إلا أنه في هذه المرة لم يستطع أن يمنع نفسه عن البحث عنها .. وفي الليلة التالية ذهب إلي صديقته سيمن في مقرها الكائن في حي إيرون وهو يهتف : أين هي .

ـ من

ـ أنت تعرفين من أقصد

ـ أتعني إديل

ـ نعم .. نعم إديل

ـ وقعت يا شاطر وطغت ابتسامة عريضة على محيا سيمن

ـعم إذا كان من هدية تقدمينها أومن معروف تصدينه لي هي أن تقويمي بدعوتها لنتعارف .

عندما نحب .. نرى من نحب في كل الأماكن .. في كل الأشياء . في كلمات الأغاني .. قصائد الشعر .. أمواج البحر .. تذاكر السفر .. أطباق الطعام .. رائحة العطر .. إعلانات الثياب .. أوراق الشجر .. أفلام السينما .. فناجين القهوة .. كراسات الرسم .. دخان السجائر .

معاناة أننا نأكل ونشرب ونمشي ونتشاجر ونفرح ونغضب .

في غيبوبة تامة عن مشاعرنا غيبوبة تصنعها الشراهة .. أو تفرضها الأقراص المخدرة.

ولا علاج إلا بنسمات الهواء الطازجة .. والحب هو الرئة التي تحوي هذه النسمات يجعلنا نجدد البحث عن أفق .. نرمم ذاكرتنا التي دمرها زلزال الغريزة .. يجعلنا نسترد أنفسنا الضائعة .. الحائرة .. القلقة .

ويسترد القلب سلطانه .. ويعود ليتوحد مع الندى .. والشعر .. والعطر.. والعيون .. والرموش .. والزهور .. البراءة .. وساعتها نردد : أكرر للمرة الألف أنني أحبك كيف تريدينني أن أفسر مالا يفسر ؟

كيف تريدينني أن أقيس مساحة حزني ؟

حزني كالطفل .. يزداد في كل يوم جمالاً ويكبر.

دعيني أقول بكل اللغات التي تعرفين والتي لا تعرفين .. أحبك أنت .

دعيني أفتش عن مفردات تكون بحجم الحنين إليك .. وعن كلمات تغطي مساحة حبك بالماء والعشب والياسمين دعيني أفكر وأضحك عنك وألغي المسافة بين الخيال وبين اليقين دعيني أؤسس دولة عشق تكونين أنت الملكة فيها وأصبح أنا أعظم العاشقين دعيني أقود انقلابا يوطد سلطة عينيك بين الشعوب

دعيني أغير بالحب وجه الحضارة أنت الحضارة أنت التراث الذي يتشكل في باطن الأرض .. منذ ألوف السنين .

حينما قالت له (سيمن ) بالتلفون إن إديل في انتظاره أحس بنشوة طاغية وصل إلي المكان .. تأملها وبقي واقفاً مشدوها بجمالها إلي أن دعته للجلوس .

قال في نفسه : ربما كان الحب في حياتها مثل مسافر ( ترانزيت ) مسافر عابر .. قصير الإقامة .. ما أن فتح يصل حتى يقرر الرحيل .. لكنه .. ترك على قلبها حرائق لم تخمد وعلى جسدها بصمات لم تمح .

كان بجوارها .. بضة ناعمة الملمس .. جسدها يبدو خالياً من العظام وفمها إن نثر الحديث حسبته نثر الدرر .. إنه امرأة تخترق الحياة .

للوهلة الأولي تعتقد أنها ستسحبك إلي جزر المتعة الملتهبة والتوابل الحارقة .. عجينة من البخور والوابل .. قابلة للاشتعال امرأة صغيرة تجاوزت العشرين قليلاً .. تشعرك بأنها مفخخة .. تفجر أي رجل يصطدم بها. وكان صاحبنا ذلك الرجل .. في ذلك المساء وقد خانه التعبير ولم يعرف ما يقول وأصبح كأنه تلميذ جديد في أول يوم دراسي له يرفع رأسه وينظر إليها تقابله بابتسامة صغيرة . كل واحد منهم خائف من الاقتراب .

ولكي يبدد وحشة المكان وثقل الصمت عرض عليها الخروج .. لم تمانع .. بعد جولة قصيرة كانا على الشاطئ .

 

البقية في العدد القادم

جمال أحمد ديني