كان يستيقظ كل صباح، فيحلب أبقار أبيه السبعـة، لا يعكر صفو يومياته همّ حياتي وفي نهاية كل شهر يقصد مع أبيه المديـنة للتبضع، ليشتري قطعة قماش وحذاء وأخرى للأهل والجار...  مفرشـه من حصير ومن سعف النخيل... يلبس تمام الشهر نفس الإزار والقميص. 

 بلغ الرابعة عشر، أرسلـه الوالد إلى المدينة، سكن عند عمه في حيّ من أحياء الجمهورية، حارة مكتظـة السكـان، متعددة لغات ولهجات ساكنيها، يختلط فيـه لسان العفري بالصومالي، والعربيّ يمتزج بالفرنسيّ، فسيفساء آدمي لن تعثر عليـه إلا بهذه الحارة.. كل الوجود غريب عن فطرته القروية: البشر والحجر والبناء،من الحصير إلى الفراش ومن الخيمـة إلى أبنيـة وعمارات. سُجّل بمدرسة أهليـة بالحارة، قريبة من البيت، حرصا من أن يتوه بالمدينة، وخوفا من أن يتنمر عليه أولاد الحيّ، توصله زوجة العم إلى المدرسة غداة ورواحاً.

تعلّم وكسا اللحم عظمـه؛ فقوي ساعده ولكن ظل عقلـه كما كان.. تمدّن لبسا ولغـة وبقي العقل يحلب الأبقار السبع .. حرص العم وزوجته وخوفهما عليه حال دون أن يحتك بأقرانه، وحرم من أن تعلمـه المدينة فنون التجمع والاجتماع، بينه وبين الحيّ لم تنشأ علاقـة الإنسان والارتباط، كما لم تخلق بينه وبين المدنية سوى حفظ المأثور وما تحمله بطون كتب الدراسـة.. ماذا يمكن له أن يحكي عن نفسه وعن الطفولة في ... 

مكث في الحي عشرون عاما، وخمس سنوات قضاها خارجها صارت كل ذاكرته فتنكر للعشرين.. لماذا؟ 

رجع بعد غياب قصير..و بدأ يسارع الزمن  نظر إلى نفسه وإلى أقرانه بالعمر، يقارن ... فيكتشف بعقله المحدود والحافظ، فجوة فيقول: أنهم تقدموا كثيرا ... وأنا متأخر جدا، يصيبـه من الدهشة ما أصاب العرب بعد الحملة الفرنسيـة على مصر ويتساءل مثلهم: لماذا هم متقدمون ولماذا أنا متأخر؟! من هنا يبدأ مصارعة الزمن لتتداخل كل المفاهيم لديه، إلى أن يستقر في قراره بأنهم وكل تصرفاتهم تحضّر ومدنيّـة.. فانطلق كسهم ويتخبط خبط أعمـى. 

كانت أخلاقـه أخلاقُ راعٍ شهم صادق دخل إلى المدينة يلبسه الحياء والفطرة السليمة، فخرج منها محدودب الظهر، قصيرا ضامرا أشعثْ.. تعلم الحقد ومارس الغدر وتفنن في أكل الحرام. 

شيع دوما بأنه مثقف عليم، صار له عقل فرنسي مقعر، وشاربان سوفيتيّان كثان: إلا أنّ رائحة الجهل ما زالت تنبعث عنه كريهـة كروحه التي تلوثتْ  وامتلأتْ بالأحقاد وسوء الظنون والغدر .. تمدَن كما أراد واشتهى ...

 قصد أن يتخلص من عبئ البداوة ووسم المعارف له بـ (البدوي) عانق المدنية من أقبح وجهها؛ثم من الأفعال ما لا يأته أبناء أفقر حارة بالجمهورية، فقـد جوهره .. وظل الجهل ينخر عقلـــه.!

 

الكاتب والقاص /حمد موسي