ذات مساء كنت جالسا في مقهى  قريب من مكان عملي أشرب فنجان القهوة الذي تعودت تناوله في مثل  هذا الوقت ، الرطوبة تكتم الانفاس ، وأنا أشعل سيجارتي  في مزاج سيئ ..لفتت انتباهي امرأة مجنونة، متشردة، تمر من أمامي  حافية القدمين  في عز الحر،  منهكة هزيلة الجسم تتحامل في مشيتها  .. فجأة توقفت عن المشي بدأت تحملق في وجهي زهاء خمس دقائق كأنها أحست  أنني ألحقها بنظراتي،  أزحت وجهي عنها  وأنا أتابع تموجات الدخان المنبعث من فوهة السيجارة  الممزوج بدخان داخلي،  و عيني  تختلس النظر إليها بين الفينة والأخرى،  بشعور ممزوج بالفضول وعدم الٱمان في آن واحد، ماهي الا لحظة تحركت قادمة  نحوي، اعتدلت في جلستي أفتش مافي الجيب، لعلها ستسأل عن  المال، وجدتني لا أحمل فكة معدنية  سوى رزمة من أوراق نقدية، هممت إلى النادلة لتسعفني من الحرج إلا أنها كانت بعيدة بعض الشيئ  .. وقفت المسكينة  قبالتي عند الطاولة وأشارت بأصبعها الى سيجارتي المستعملة، فهمت أنها تريد السيجارة سحبت علبة السجائر التي وضعتها أمامي علي الطاولة،  لأعطيها إلا أنها رفضت پإشارة  إلى السيجارة التي أستعملها مرة أخرى، ناولتها وأنا  في شيء من الذهول سحبت السجارة إلى شفتيها وهي منتشية  بسحب  الدخان إلى رأتيها بحرارة وعينيها مغمضة.. رفعت راسها   تنفث الدخان بطريقة عجيبة أشبه بطريقة الممثلات في هوليوود، إنها حرارة اللهفة  التي لا تفرق بين العاقل والمجنون عند اشتدادها في النفس و يتدحرج  معها الإنسان إلى نقطة اللاوعي ناهيك عن كونه سوي او ناقص عقل وهو مايشير إليه سلوك المسكينة، إنها لا تسأل عن شربة ماء تبل حلقها من العطش، في هذه الاجواء التي تكتم الانفاس من شدة الحرارة، ولا عن كسرة خبز تسكت جوعتها، إنما تسأل عن دخان يهدئ أعصابها من حرقة  اللهفة  ..  فتحت عينيها الناعستان  ثم التفتت نحوي تعلوا شفتيها إبتسامة حانية ومضت الى حال سبيلها لتجلس على رصيف غير بعيد لتخلو الي عالمها . ما حيرني أكثر هو أنها مٱلوفة كأني إلتقيت بها من ذي قبل ملامحها ليست غريبة، وأنا أعسف الذاكرة لاستحضار موقف جمعني بها يوما ما ، الذاكرة أحيانا كخاطرة  لا تطاوعك في رغباتك بل تقتحمك وانت شارد .. يا للغرابة  !!! إنها نفس الفتاة  تذكرتها الٱن ياللتعاسة  كم تغيرت ملامحها مؤلمة هي  حياة التشرد، نعم  إنها تلك الفتاة  المسكينة التي أبكتني يوما وجعلتني  مكتئبا لأيام رباه كيف جمعتنا الصدفة مرة أخرى  وبظرف شبيه بلقائنا الأول استحضر ذلك الموقف بعد 12 عاما ظهيرة يوم من شهر أيلول الحار، وأنا أقف عند نافذة مكتبي المطل على شارع موسكو أسجر وإذا بفتاة متهالكة على الأريكة الموضوعة للراحة على الرصيف المقابل تحت أشعة شمس لافحة  وعلى شفتيها سجارة  وفي حضنها طفلة ترضع تعاود البكاء من حين إلى آخر ربما لم تجد ما يكفي معدتها الصغيرة من اللبن في ثدي امها، أو بسبب الحرارة القاتمة، وقتها كنت أدير مشروع جريدة أهلية حديثة التأسيس كانت ايام صعبة كنا نمر بأزمة مالية، كنت أعاني من ضغوط نفسية،  صورة تلك الطفلة الرضيعة  أثرت في نفسيتي  حتى أصبحت لا تبا رح ذهني بسببها أصبحت مكتئبا لايام ..  ياتي صوت النادلة أكثر رقة  هذه المرة وهي تضع الصينية على الطاوله لتسأل عما  إذا كنت أفضل القهوة مع الحليب، تعكر مزاجي أكثر نهضت من مكاني وأنا أضع الحساب على الطاولة دون ان التفت الى النادلة.