حنان حكاية لم تكتمل!! .. ونزيف مستمر لم يتوقف، حنان يا جرحا في الفؤاد لم يندمل .. صعب أن يسلمك الفراق إلى شواطئ الحزن وأن يمتد بك إلى حافة الهلاك، وصعب أن يكون أبديا، وأنت تعصر دم قلبك لوعة لحبيب فقيد لم ترتوي منه، وددت لحظة ضعف وانهيار ضمة حنان أخيرة، تكون عزاءا لك وأنت تدرك استحالتها .. حنان ارحمي نفسك بابنتي أرجوك قالت: الأم بألم وهي تسحب ابنتها إلى حضنها بعدما أزاحت من يدها سما زعافا كادت تشربه وتنهي به حياتها، على وقع مصيبة عظيمة ألمت بها ،إنها مصيبة الموت، مصيبة الفقد الذي لم يستطع قلبها الصغير تحمله، قالت: بشيء من التنهيدة وبصوت متوجع وهي تنتحب في حضن أمها ألم تقولي يا أماه المرأة التي تحب زوجها بصدق وإخلاص وتسهر على محافظة شرفها وشرف زوجها تظل سعيدة في حياتها مهما واجهتها الظروف، ولماذا أشعر أن أمعائي تنزف و تتقطع يا أماه؟ ..لماذا أموت الآن قهرا في حضنك؟ قولي يا أماه ماذا فعلت حتى استحق هذا العذاب؟ اتركيني أرجوك لا أستطيع الاستمرار في العيش، ماذا بقي لي لأعيش؟ لقد فقدت كل شيء، أتوسل إليك اتركيني لقد اشتقت إليه .. من ذا بمقدوره يدرك حجم ألمها وبؤسها، ويلمس بشغاف قلبه معاناتها؟ وهي تنتحب بصوت عميق جارح من صميم الكبد في حضن أمها، وتزرف على مقلتيها عبرات ساخنة تنم عن انسحاق قلبها الصغير من هول الفجيعة، كيف لا وقد غيب الموت زوجها وحبيب قلبها، بحادث مفجع وهي حبلى - ولم يكن قد مر على عرسهما سوى شهور قليلة عرفت خلالها ذلك الإحساس الذي تفتح له قلبها الصغير وبدا ينبض وينسكب فيه الشعاع، كبرعم يمتص ضوء الشمس ويتحول إلى ورد ينثر عطره في الإرجاء، غير أن القدر لم يمهل قلبها الصغير أن يتشبع و يترع من ذلك الإحساس الجميل، حتى هوت على جوانبه الخطوب وعصفت على أحلامه وآماله العظام عاديات الأيام والليالي السود. بهول الصدمة تحولت حنان إلى جثة هامدة لا تتحرك ولا تأكل أصبحت أسيرة الحزن طريحة الفراش ، مع الأيام ازدادت حالتها سوءا حتى تحولت إلى هيكل عظم يكسوها الجلد، ظلت في هذه الحالة لمدة طويلة، ولم تتحسن حالتها رغم مرور عام على مصابها ، فكرت عائلتها في تغيير الجو لها ، وأدركوا استحالة تحسنها في هذه البيئة، سافرت حنان مع أمها وابنتها الصغيرة وأختها الكبيرة إلى أديس أبابا لتبقى هناك بعضا من الوقت على أمل إن تستعيد بعضا من حيويتها وتزيح من رأسها جزءا من همومها الثقال ، أمها كانت خير معين لها في هذه الرحلة حرصت كل الحرص لتهيئة وسائل الراحة لها، وضعت بعناية برنامج الزيارات والطلعات، إلى الأماكن السياحية و المطاعم الفاخرة، على أمل أن ترى على وجه صغيرتها البريء، نضارة مفقودة منذ الحادث الأليم، وعلى شفتيها المكتنزتين ابتسامة معهودة، تلك التي كانت بالسما تعيد إلى المهموم راحته، وإلى عينيها الواسعتين السوداويتين بريقها ولمعانها .. جلست الأم قرفصاء وهي تضع صينية القهوة أمامها، بينما حنان تجلس على الأريكة، تضع يدها النحيلة على جبينها مستغرقة بهمومها، حنان قالت : الأم وهي تنظر إليها بحنية بينما هي لا تزال منسجمة في عالمها تريثت الأم دقيقة وهي تتفحص ملامحها الطفولية التي لا تزال بارزة رغم الألم والمعانات، إنها ابنة السابعة عشرة ربيعا، كانت حنان آية في الجمال هيفاء ممشوقة القوام مليحة الخدين، مرحة خفيفة الظل، لا تفارقها الابتسامة .. تحادث الأم نفسها بخفوة وتتساءل كيف أن الحزن دمر ابنتها كأنها ليست ابنتها التي تعرفها أصبحت زهرة ذابلة بسبب الحزن والألم ومعانات الفقد .. سامحيني يا صغيرتي بتقصيري لمساعدتك على مصابك الجلل قالت: الأم بينما تنساب من عينيها دمعة ساخنة، إنه قلب الأم وهي التي لا تعرف منذ مصاب ابنتها ومحاولتها المتكررة للانتحار الراحة والسكينة و لا يعرف النوم سبيلا إلى عينها، سؤال ابنتها الكبرى من المطبخ وهي تسأل موضع الحلويات أخرجها عن الاسترسال من هواجسها .. قامت الأم في صبيحة أحد أيام فبراير القارص عن فراشها في وقت مبكر، كالعادة ولم تجد ابنتها إلى جانبها على الفراش، توجهت بسرعة إلى الحمام ولم تجدها ، دلفت بعجالة إلى المطبخ بحثا عنها، بينما تهم للخروج إلى غرفة أخرى، سمعت حشرجة متقطعة من الشرفة، دنت من باب الشرفة الذي لم يحكم إغلاقه جيدا تقدمت بخفة واضعة يدها على مزلاج الباب تسخ السمع إلى هذيان ابنتها .. حبيبي هل تتذكر وعدنا في تلك الليلة على شاطئ «سيستا»؟ بعدما هربنا من حفل الخطوبة خلسة دون أن يرانا أحد، أتينا نهرول إلى مكاننا المعتاد كانت ليلة اكتمال القمر ، جلسنا في زاويتنا المفضلة، و النسيم يداعب الهواء، كما داعبت المحبة قلبينا، قلت لي حينها نلعب لعبة الحظ ونرمي الحجر مرة واحدة على المياه ونرى كيف تتوسع دائرتان، كلما توسعت ملتصقتين بشكل أكبر تدوم محبتنا ويدوم عمرنا، كان شعاع القمر ينسكب على مياه البحر، ما أن قمنا برمي الحجر اتسعت الدائرتان كأنها بركة من أللآلي مع انعكاس شعاع القمر عليها، في تلك اللحظة قلت وأنت تنظر إلي مبتسما تصوري لو مت أنا قبلك كأنك تنبأت فجيعتي بك يا حبيبي، قفزت أضع يدي على فمك فقلت بشيء من الغضب ابصق ريقك، وأنا أعاتبك على هذا التشاؤم الذي لم أتعود منك، ونحن في قمة السعادة والفرح نتوج حبنا، في تلك اللحظة تعاهدنا لبعضنا ألا نفترق أبدا نعيش معا أو نموت سويا، لكن كان للقدر شأن آخر مغاير لأحلامنا وتمنياتنا .. رحلت أنت، وتركتني معذبة أغالب وحدي آلامي وأحزاني آه لو تعلم ما مررت به من عذاب، كنت أموت كل يوم وكل ساعة، بل كل دقيقة، يعلم الله يا حبيبي كم مرة حاولت الانتحار كان دأبي الفشل لكل محاولة لكم تمنيت إنهاء معاناتي للحاق بك، ما دامت الدنيا لم تتسع لكلينا فقلت فالثرى كفيلة لضمنا معا، لكن تدبير الله لأمورنا عجيب لا يصل إليه إدراك البشر ، هلعنا من المصائب يعمينا من تبصر مقاصد قضاء الله لإبتلآتنا، الآن أدرك أن وجودي في الحياة رغم كل محاولات الانتحار هو كتابة حياة جديدة لأمانة تركتها في أحشائي .. آه كم هي لطيفة وجميلة؟ يا حبيبي ورثت منك الابتسامة و الحواجب الكثيفة الجميلة ، لقد أسميتها حياة نعم هذا الاسم جدير بها، لأنها دفعت إلى الحياة بقوة غير طبيعية، يؤلمني إنها ولدت يتيمة ولم تجد ما يكفي من حنان الأمومة، من أم تبكي زوجها وحبيبها دهرا، لا تتوانى الهلاك بل سعت إليه بكل قوتها، لكني أعاهدك الآن يا حبيبي أنني سأعتني بها ، وسأعيش لأجلها ما تبقى لي من عمر فلترقد روحك بسلام يا أغلى من ضمته الثرى .. انبح صوتها أكثر إلى ما يشبه الهذيان، أمها لا تزال واقفة تنصت إلى همومه، يدها على قلبها بينما تنساب من عينيها عبرات، تركت ابنتها تحادث نفسها وتخرج ما يؤلمها حتى تهدأ وترتاح ، بعدها بدقيقة لاحظت الأم ارتعاش جسدها أسرعت تسحبها إلى حضنها، بينما يهتز جسد حنان المتهاوي خاري القوى من شدة الارتعاش أسنانها تصطك على بعض و هي تحاول التمتمة .. يا إلهي إنها محمومة زهرا أين أنت؟ ألحقيني بابنتي أرجوك ، حنان يا روحي آه يا رب لا تفجعني بها أرجوك أتوسل إليك.

 تتأوه الأم المفجوعة ولا تدري ماذا تفعل، وهي تحوي ابنتها في صدرها كأنها تحميها من الموت .. مكثت حنان في المستشفى ثلاثة أيام ولياليها تهذي حينا ويغمى عليها حينا آخر، إلى أن استعادت وعيها، عرض الطبيب الذي يتابع حالة حنان على الأم،آن تمكث يومين إضافيين في المستشفى، حتى تستعيد شيئا من القوة، لأنها ضعيفة، أخذ الورقة يصف لها الأدوية والفيتامينات، بدأ الطبيب يسأل الأم أسباب مرضها، ودار بينهما حوار قصير يدون ما تقول الأم، أخيرا حثها على بعض التعليمات في التعامل مع وضعها الصحي والرعاية التي يجب أن تتلقاها لأن وضعها الصحي متدهور جدا، وعرض عليها فكرة أخذها إلى الرحلة لمنطقة أكثر دفئا من أديس أبابا، وتغيير بعض الروتين حتى تتخطى الصدمة .. بعد مضي ثلاثة أعوام على الحادث جلست حنان على الأريكة قبالة نافذة الغرفة في مزاج متعكر تفتش هاتفها الخلوي تستعرض ما في بريد الرسائل الواردة، التي لم تجد وقتا لمعاينتها والرد على ما يستحق منها والتخلص من الفائض ، طرحت الهاتف جانبا بكسل لتستلقي على الأريكة وهي تحاول طرد أفكارها و وساوسها من رأسها.  يتبع. 

 

 بقلم/ محمد عتبان