عاش الإنسان منذ أن أودعه الله في الأرض وجعله خليفته فيها أطواراً عدة , تميزت بعضها عن بعض بقدر ما يحرزه من تقدم يقوده إليه ذهنه انطلاقاً من معايير ومؤشرات تستند إلى قناعاته الفكرية والأيديولوجية في إطار سعيه الحثيث في سبيل الوصول إلى ما يريده من رغبات أو حاجات . وبفضل عقله الذي يميزه من الحيوان يتعلم الإنسان من أخطائه التي ارتكبها في الماضي ويتلافاها عند صناعة حاضره الذي يعتبر بذرة بناء وصياغة مستقبله قريباً كان أم بعيداً .
والشعب الجيبوتي عاش حقبة استعمارية كرس كل طاقاته لنيل حريته ، وبعد الاستقلال أرسى دعائم دولة لا تقوم على أركان قوية من الموارد الاقتصادية ولم يترك لها المستعمر رصيداً معتبرا يمكن أنً يعول عليه ، بل خلف وراءه قنابل وألغاماً تتطلب إزالتها الكثير من الحذر والحكمة ، واستطاع الجيبوتيون - متسلحين بسلاح وحدة صفهم الداخلي وتماسك نسيجهم الاجتماعي - أن يتجاوزا كل هذه التحديات .
وبعد مضي عقد ونيف من تاريخ الاستقلال أشعل أعداء جيبوتي ، الذين لم يرق لهم أن تكون الواحة الآمنة الهادئة في منطقة يسودها التوتر وتعصف بها الأزمات والصراعات, نار الفتنة ودقوا الطبول لاندلاع حرب أهلية , وحتى يفقد أبناءها التوازن وتركيز الجهد على الذود عن حياض الوطن والحفاظ على الوحدة أرضاً وإنسانا أثاروا في الوقت نفسه زوبعة أخرى اجتاحت حينها أغلب البلدان النامية عموماً والإفريقية خصوصا كانت ترمي إلى إرغام الضعفاء على اقتفاء أثر الأقوياء ،ولتحصين جيبوتي من أن يجد المتربصون فرصة يتخذونها ذريعة للتدخل الأجنبي الذي وضع دولاً كان يحسب لها ألف حساب مثل العراق الشقيق في وضع لا يحسد عليه ،استعجل الجيبوتيون على وضع فقرات ومواد أصبحت النواة الأولى لدستور جمهورية جيبوتي وحقا كان يحمل في طياته حلاً لكل المشاكل القائمة وقتئذ .
ومع مرور الدهر كانت الأيام تكشف النقاب عن أمور لم يشملها الدستور واستجدت في سياق التطور الذي تشهدها البلاد مثل :
- وسيط الجمهورية الذي أنشأه رئيس الجمهورية مع أول تشكيلة وزارية في عهده لتكون نافذة ومنبراً يلجأ إليه المتظلمون من رؤسائهم في الوزارات والإدارات بغية ضمان مزيد من الشفافية والعدالة الاجتماعية .
-كل المناصب والألقاب والهيئات التي تمخضت من تطبيق اللامركزية مثل المجالس الإقليمية ومسؤوليها .
-محكمة المحاسبة والزجر المالي التي أنشاها الرئيس في فترة رئاسته لتكون آلية قضائية مستقلة تسهر على سلامة استخدام وإدارة المال العام .
ذلك غيض من فيض من الأمور الكثيرة التي تم استحداثها في إطار الإصلاحات السياسية والمالية والقضائية التي شهدتها البلاد في غضون العشر سنوات الماضية .
وفي سياق آخر هنالك أمور أخرى كثيرة شملها الدستور واتضح أنها تحتاج الى تعديل أو تنقيح لترقي الى المستوى المطلوب وتكون علاجاً قانونياً ناجعاً للمسائل التي تتعلق بها .
ونورد منها على سبيل المثال الحصر :
-لحل قضية الإزدواجية أوالجمع بين المنصب الحكومي والبرلماني هنالك مادة في الدستور الجديد تنص على عدم جوازها لكون ذلك يتناقص مع مبدأ الفصل بين السلطات .
-لتتناسب فترة الولاية الرئاسية مع الجداول الزمنية المعمول بها عالمياً عند وضع الخطط التنموية من خطط خمسة وعشرية .. الخ ، يقترح القانون المعدل للدستور تخفيض الفترة الرئاسية إلى خمس سنوات بدلا من ستة أعوام .
-تلافيا لأي تقصير في مجال حقوق الإنسان يستكمل القانون المعدل للدستور المادة المتعلقة بذلك بفقرة تنص صراحة على عدم جوازتطبيق عقوبة الإعدام في جيبوتي .
-هنالك أمر غاية في الأهمية لم يكن في السابق في الموقع الذي يستحقه وهو :
هويتنا أو بالأحرى عقيدتنا الاسلامية السمحاء التي جاءت في دستور 1992 في سياق المقدمة المدرجة في الديباجة التي لا يمكن الاعتداد بها ولا تمثل رقماً محسوباً في تسلسل المواد التي تضمنها الدستور ولعلاج ذلك والتأكيد على انتمائنا الديني تم تخصيص المادة الأولي من الدستور الجديد للإسلام كدين وحيد للدولة في جمهورية جيبوتي .
طبعا لا يتسنى لنا حصر كل الحيثيات التي استدعت إصلاح الدستور ولكن أليست المسائل السالفة الذكر سببا كافيا لإصلاح الدستور؟
هل من المعقول أن تظل المؤسسات والهيئات وكل المستجدات التي جاءت بعد الدستور خارج إطار القانون ؟ بعد هذه القراءة الأولية للعناوين الرئيسية التي يتضمنها الدستور ألايتوصل كل ذي بصيرة وحس وطني لا تحركه مصالح خاصة أن إصلاح الدستور ضرورة اقتضتها الأوضاع والظروف المستجدة مع مرور الوقت ؟ عقب الإقرار بذلك ألا ندرك أننا ندخل بتعديل الدستور حقبة تاريخية جديدة تستلزم البناء والعمل على ما تمليه مفردات الدستور الجديدة واعتبار ما سبق جزءاً من ماضينا المسطر في سجل التاريخ ؟ ألا يتطلب كل ذلك فتح صفحة جديدة تبدأ حروفها من أول سطر في صدرها ؟ إذاً لم الحديث عن الولاية الثالثة والتركيز عليها بهذا الاسلوب ؟ هل أصبحت القشة التي قسمت ظهر البعير وبثت الرعب والخوف في نفوس الذين لا يقدرون الخوض في غمار المنافسة ؟ أم ماذا ؟

رئيس التحرير