دخل عليّ ولدى فجأة وأنا في مكتبة منزلي أقرأ كتاباً كعادتي بعد صلاة العصر ، وصاح بأعلى صوته: يا والدي، هل لي حق الحوار والنقاش معك؟
قلت له: نعم، هذا حق طبيعي وفطري كفلته لك شريعة محمد وقانون الغرب الغالب، وقانون الأحوال الشخصية.
قال: يا والدي، أليس الإنسان كائناً معقداً.
قلت له: بلى
قال لي: ألست إنساناً؟ بفتح التاء
قلت له: بلى
قال لي: ألست إنساناً؟ بضم التاء
قلت له: بلى
قال لي: لماذا تحاول دائماً أن تفهمني لكثرة أسئلتك، ومحاولاتك الدؤوبة للتغلغل في أعماقي.
قلت له: أحاول ذلك لأفهم من أنت؟ هل أنت انطوائي؟ أم اجتماعي؟ هل أنت اقترابي؟ أم ابتعادي؟ هل ابني هذا جاد؟ أم هزل؟ هل هو يخالفني؟ أم يفترق عني كلياً؟ أم يشبهني؟.
قال لي: أنا أتساءل : كيف يفهم أبي حالي.. وأنا معقّد؟ أو كيف يريد أن يتغلغل في أعماقي.. وهو ليس أنا أليس هو معقد؟
قلت له: يا بني.. من أين لك هذا الكلام؟ وهذه الفلسفة؟ وتلك التساؤلات.. وعمرك لم يتجاوز الخامسة عشر.
قال لي: سمعت ذلك من بعض محاضراتك، ودروسك، وكلامك مع الوالدة.. دائماً تقول: الإنسان كائن معقد ومركب، وليس كما يقول الواعظون والمرشدون والمربون كائناً سطحياً وبسيطاً.
هكذا تردد يا والدي مع والدتي، ولكني أسأل لماذا تناقض نفسك في التطبيق؟ لماذا تريدني أن أكون ما لاً أريد؟
قلت له: يا سيدي.. ليتني فهمتك، وليتك فهمتني، وليت كل واحد منا فهم الآخر.. ولكن أن يكون الإنسان معقداً شيء، وأن يحاول كل واحد فهم الآخر شيء آخر.
قال لي: يا والدي.. الآن فهمت أكثر أنك كائن معقد.. ومركب ولك شخصية فلسفية لا ترى، ولا تلمس، ولا تشتم، أنا ولدك، ولكنك أعطيتني لقب السيد.
قلت له: يا بني.. هكذا يجب أن تحاول فهم والدك.. وهذا حق طبيعي وفطري وقانوني.. وفوق ذلك كله شرعي، ولكن أليس من حق الوالد أن يفهم ولده، وأن يتعمق في هذا الفهم، وأن يحاول التغلغل في شخصية الولد ليكون على بيّنة من أمره ما أمكن.
قال لي: يا والدي.. إن الفهم شيء، وأن تريد ليكون ولدك وفق ما تريد شيء آخر، وهذا بعض ما تعلّمت منك.. فأنا أبدو صغيراً، ولكني لست كما تظن، فقد أفهم، وأعقل، وأعي، وأتساءل: هل الآخرون يفهمون أنني أفهم؟ أما زال في ظنونهم أني مازلت طفلاً؟
قلت له: ولدي.. هل أسألك سؤالاً بسيطاً؟
قال لي: نعم.. يا والدي.
قلت له: ماذا تريد لأفهم رغباتك وطموحك؟
قال لي: أريد أن أعيش في عصري.. ولحظتي.. دون أن أتقمص شخصيات الآخرين.
قلت له: ولدي.. لم أفهم ما تريد سوى بعض الكلمات الجميلة الأدبية.. ولكن سؤالي محدد.. هو ماذا يريد ولدي من والده؟ وماذا يريد ولدي من والدته؟ وماذا يريد ولدي من وطنه؟ وماذا يريد ولدي من مدرسته؟ وماذا يريد ولدي من معلمه؟
قال لي: فعلاً مازلت معقداً يا والدي.. فيلسوف من الطراز الأول، تقول ما تشاء وفق مقتضيات تتراءى لك، أما أنا فأعترف أنني بسيط وسطحي .. لكن من حولي تخلق في ذاتي التمرد على كل شيء.. على كل المظاهر.. على المعتقدات.. الناس يا والدي لا يعترفون لشخصيتي بالتفرد.. ولا لحياتي بالخصوصية.. كلهم يقولون أنت ابن من؟ وكأنهم لا يرون أمامهم بشراً.
قلت له: ولدي، للآخرين مقاييس، ولنا موازين، فعلاً تنظر إلى مقاييسهم، وإنما استفد من موازيننا.. فأنت شخص عظيم، لأن الله أكرمك، وأنت إنسان مهم لأن الإيمان تغلغل في ضميرك، وأنت رجل مميّز لأنك تربيت بصورة مميزة، ولكن الآخرين لا يعرفون ذلك.. فلا تهتم بمقاييسهم.. وإنما العبرة بما تكون.
وصدق الشاعر العربي حين قال:
ليس الفتى من يقول كان أبي... ولكن الفتى من يقول ها أنا ذا!
قال لي: والدي.. أحبك لأنك تفكر بصورة مختلفة، وبشكل آخر، فأنت مرن وفي التعامل، ولكن الشدة في بعض الأحيان تجعلنا نتساءل: لماذا يغضب والدك؟ لماذا لا يكون دائماً في مرحة وفرحة لنكون معه سعداء.
قلت له: ولدي.. الحياة مدرسة، وبها طلاب ومدرسون، ولكن الطالب لا يعرف أنه في مرحلة الدراسة، والمدرس لا يقتنع بأنه في مرحلة التدريس.
ولدي، أنا في المرونة كالحمامة ولكني لست ثعلباً، ولا ذئباً، ولا دباً، وفي الغضب كالأسد ولكني لست شيطاناً ولا عفريتاً، فمرونني غالبة، وشدتي قليلة والحمد لله أولاً وأخيراً.
ولكن يا ولدي.. زارني يوماً أحد الأحباب فقال لي:
حبذا لو رأيناك دائماً وأنت حمامة.. ولا نراك وأنت أسد.. قلت لهذا الحبيب.. لو كانت الحياة كذلك لكنا في دار النعيم.. لا في دار العمل والكد والكدح.
قال لي: شكراً يا والدي.. فكن معنا.. وإلى الأبد.. فأنت شعلة متوقدة من الفكر والعمل.. ولكن نرجو أن نكون في حسن ظنك بنا.

بقلم المفكر والداعية:
الشيخ عبد الرحمن سليمان بشير