كنت هناك في الممر الضيّق في قسم الطوارئ للمستشفى الذي عادة ما يزدحم بالمرضى والممرضين والأطباء خاصة في ساعات الليل، حين رأيت إحدى الممرضات هارعة إلى الطبيب الواقف بالقرب مني وهي تقول: الحقني يا دكتور حالة طارئة، طفلة تعرضت للعنف وتتنفس بصعوبة بالغة، هرول الدكتور ناحية الغرفة التي خرجت منها الممرضة، وسرت أنا بدوري ورائه والفضول يتملكني، دخلت الغرفة خلفه فرأيت طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها عشرة أعوام ممددة على السرير بدون حراك، وكدمات الضرب المبرح الذي تعرضت له تملأ وجهها الصغير وتساءلت:- ترى ماذا حدث لها من الذي ضربها بهذا الشكل الوحشي من هذا الوحش الذي سولت له نفسه بمد يده على هذا الملاك الصغير الجميل البرئ، وبدأت ألعن الفاعل "المجهول" في داخلي، ترى هل هو أبوها أم هي أمها أم أخوها...؟ إلى أن رأيت والديها وهما يسألان الطبيب عن حالتها، فاقتربت منهما وسألتهما عن الذي ضرب فلذة كبدهما لهذه الدرجة التي أفقدتها الوعي، فأخبراني أن ثلاثة من زميلاتها بالمدرسة هاجموها على غفلة منها وانهالوا عليها بالضرب بشكل عدواني إلى أن أفقدوها الوعي، لم أستطع أن أصدق أن هذه الكدمات صدرت من أنامل وأياد ناعمة رقيقة ترى مالذي قاد هؤلاء الأطفال الصغار إلى التصرف بهذه العدائية تجاه زميلتهم من متى كان أطفالنا عدائين، ومنذ متى كانت براعم لا يتجاوز عمرها أصابع اليدين تتآمر مع بعضها لترسل بالضرب أحدهم إلى المستشفى وهو مغمى عليه، لأن الآباء قصروا في تربية أولادهم؟ فغاب عنهم دور الأب المربي والأم المربية ليحتل تلك المكانة وليتربع على هذا العرش بدون منازع صندوق عجيب يكاد لا يخلو منه بيت من البيوت، الذي يوضع عادة في زوايا الغرف، هذا البديل هو ذاك الجهاز الغريب العجيب الذي غزا عقول وقلوب صغار العالم وكباره وأصبح جزءً لا يتجزأ من الحياة اليومية، والذي يحمل كل ثقافات العالم وكل ما يمتع عيون مشاهديه.
لهذا الجهاز إيجابيات كثيرة منها أنه يضع بين يديك أحداث العالم وتعرف الكثير والكثير عن شعوب العالم وعن عاداتهم وعن ثقافاتهم ولغاتهم، كما أنه له سلبيات كثيرة وهذه السلبيات تؤثر بشكل سيء على الأطفال والمراهقين فكثيراً ما نرى بعض الأطفال لا يستطيعون أن يركبوا جملة مفيدة بلغة أمهم بينما يغنون ويشعرون بلغات "تي جي" و" أم بي سي 3" و"اسبيستون" و"تيكلودين" فأطفالنا يستطيعون أن يقولوا أن هذا الشيء مربع وذاك مستطيل وذاك مستقيم باللغة العربية أو الفرنسية ولكن لا يعرفون تسمية هذه الأشياء بلغتهم ، وذلك لأن التلفزيون علمهم ذلك بينما لم يعلمهم آبائهم شيئاً من لغتهم ، ليس هذا فحسب فنحن نجد في بعض الأحيان الآباء وهم فخورين بما تعلمه ابنهم من التلفزيون والسعادة تملكهم لأنه أصبح مثقفاً بعمر صغير، غافلين أو متغافلين عن الآثار السلبية التي قد تنتج من ذلك، ولا تتوقف الآثار السلبية عند ضياع لغة الأم وإنما يتجاوز ذلك إلى أمور أكثر خطورة فبسبب بعض الأفلام التي تفسر الكون تفسيراً وثنيا قد يصدق الطفل تلك الادعاءات وبذلك ينشأ على عقيدة غير عقيدته، ومما لاشك فيه أن أفلام العنف تخلف لدى الطفل سلوكاً عدائياً وهذا ما ينشر ثقافة العنف بين الأطفال وهذا الدافع الرئيسي وراء القصة التي ذكرناها في بداية هذا المقال.
كما أن للتلفزيون تأثيراً سلبياً على التكوين النفسي والسلوكي فهم بعقولهم الصغيرة ووعيهم غير المكتمل لا يستوعبون تلك المؤثرات الحركية التي تصاحب الأفلام وحدث أن رمى طفل نفسه من نافذة منزله مقلداً أحد الأبطال الخارقين "سوبرمان - سبايدرمان - طرزان" ويحدث أن يجلس الطفل ساعات كثيرة أمام التلفاز وهذا له تأثير عكسي على نمو عضلاته وقوتها لقلة الحركة فبدل اللعب مع أقرانه أو التحدث مع أبويه أو قراءة الكتب القصصية أو الثقافية يقضي معظم وقته أمام التلفزيون.

صفية عبد الله احمد