ولما كانت مناسبة شهر رمضان الفضيل أعظم مناسبة يستقبلها المسلمون في العالم.. وأنها مناسبة إسلامية فريدة تحظى باهتمام يفوق كل الاهتمامات وتفاعلاً منقطع النظير وفاقد الشبيه والمثيل.. ونحن كمسلمين ما أحوجنا للتأمل في الحكم والمعاني السامية التي من أجل التأسيس لها فرض صوم رمضان، ففي ترجمة هذه المعاني طوق النجاة لنا من دياجير رغبة تلد رغبة وظمأ شديد لا يرتوي وشهوة حقيرة نقاتل من أجل الوصول إليها، وحالنا في هذا لا يختلف عن حال باحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة إذ أن هذا الجوع والعطش الذي نلاقيه في هذا الشهر لم تكن غايته الجوع من أجل الجوع كواحد من الطقوس الدينية التي يجب القيام بها بقدر كونه دفعاً للنفس وحثاً لها للسمو بها
زائر عزيز وضيف كبير يأتينا مرة في السنة حاملاً لنا أغلى الهدايا، فرحاً مستبشراً قائلاً لنا طوبى لمن استثمر أعماله في، واعداً إيانا إن أحسنا العمل "بنعيم الدنيا والآخرة"
هذا الزائر الخاص الفريد من نوعه الذي لا يريد منا شيئاً بل يريد لنا كل الخير ويبغض لنا كل الشر، اسمه "شهر رمضان" وهو مشتق من الرمضاء ومعناه لغوياً شدة وقع الشمس على الرمال أو غيره، أو هي شدة الحرارة التي تكون مصاحبة له، أو شدة البرودة مما يتطلب شدة الاحتمال والصبر لتصل المعاناة.
رمضان شهر الغفران والقرآن ومضاعفة الأعمال الحسنة في الميزان، شهر العبادة والدعاء، شهر التسابق إلى الخيرات وإلى جنات عرضها السماوات والأرض، تفتح فيه أبواب الجنة الثمانية، هذا الضيف أو هذا الزائر يستحق منا استقبالا حاراً ، بكل حفاوة ورحابة صدر ، واستثمار الأعمال الصالحة فيه، ولا يستحق منا أن ننتهك حرمته ونقلل من احترامه، البعض منا مع الأسف يفعل ذلك فيأكل ويشرب بنهم وشراهة وكأنه لم يأكل ويشرب طوال العام، ويا حبذا لو اختفى عن أنظار الناس وأكل وشرب بعيداً عنهم "وإذا ابتليتم فاستتروا" ولكن يأكل في الشوارع وعلى مرأى من الناس متباهياً بذلك "وبئس التباهي" ما هذا إلا إنسان استعبدته بطنه فهو عبد ذليل لها وما أضعف وأسوأ من إنسان استعبدته غرائزه وشهواته، وأصبح وصمة عار على المجتمع والمارة يمقتونه بنظراتهم وشرارة السخط والاشمئزاز تتطاير من عيونهم، بذلك يكون قد خسر احترام الناس له واحترامه لذاته، ولا سيما في حي كيلو 12 الذي تحول إلى مدينة الإفطار في النهار طبعاً والمفطرين وملجأ لكل من أراد إنتهاك حرمة رمضان بالأكل والشرب ومضع القات وكل ملحلقاته فهناك من الصعب جداًَ أن تعرف من إن كان شهر رمضان قد حل وآخرون منا لم يستفيدوا من الصوم إلا "الجوع والعطش" فيعد الواحد منا نفسه من الصائمين ولكنه ليس منهم، فيسب ويشتم ويكذب ويشهد الزور ويسرق ويفطر على المال الحرام والربا، متجاهلاً بذلك أن الصوم هو الامتناع عن الحرام والترفع عن الأخلاق السيئة والخصال المقيتة، وأن على كل جارحة من جوارحنا الصوم عن الحرام وهؤلاء كلهم من أصحاب الضمائر الميتة أو النائمة والبعض منها في إجازة، ضميره ميت من يتباهى بأكل الحرام وينتهك حرمة رمضان، وضميره نائم من يظن أن الصوم ما هو إلا الامتناع من الشرب والأكل، والذي يحاول تمضية الوقت بمشاهدة الأفلام والاستماع إلى الأغاني ورغم ذلك يعرف أن هناك أعمالاً أفضل منها ويتضاعف أجرها كتلاوة القرآن والتصدق بالمال والكلم الطيب والدعاء وصلة الأرحام، فضميره في إجازة، ولا ندري متى تنتهي إجازته تلك، وكلنا أمل أن لا تطول، وكما نرجو أن يقوم كل واحد منا بمسئوليته على أكمل وجه، فالذين يطبخون الأطعمة المختلفة ويأتون بها إلى الأسواق ليكسبوا المال، فليعلموا أن الله غني حميد، وليسألوا أن يكفيهم بحلاله عن حرامه، وليقنعوا بما عندهم "فالقناعة كنز لا يفنى" وليعلموا أن الله يراهم ويراقبهم وهو "ذو البأس الشديد" وليعلم الذين كلفتهم الدولة بمراقبة الأماكن التي يصنع فيها طعام الحرام في رمضان، أنهم مسئولون أمام الله بهذا الأمر.
وليتقي الله الذين يأكلون ويشربون في الأسواق ويتباهون ويفخرون بذلك، وليدركوا أن الصيام صحة الأبدان وأن ما يأكلونه ما هو إلا سقم على سقم ونسأل الله الهدي والتقى والعفاف والغني والعفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
جمال أحمد ديني