يحكى أنه كان في قديم الزمان يوجد راعي أغنام في الجبال وشعر ذات بوم بالملل، فنادي أهل القرية بذريعه وجود ذئب يهاجم قطيعه فصدقه رجال القرية الذين هبوا لنجدته فلما وصلوا إلى القطيع اكتشفوا كذب روايته فعادوا إلى القرية وبعد فترة كرر الراعي القصة ذاتها فصدقوه مجدداً قبل أن يعودوا خائبين وذات يوم هاجمه ذئب حقيقي فبدأ يصرخ طالبا دعم ومساندة أهل قريته الذين ملوا منه ولم يلبوا نداء استغاثته بعد أن اكتشفوا كذبه وخداعه، وهكذا مات الراعي وماتت الأغنام.
ينطبق هذا تماماً على تصورنا عن الأمم المتحدة التي انعقدت اجتماعاتها العامة والتي احتفلت كعادتها بمئات من الخطب والآلاف من الكلمات التي تحدثت عن قيم السلام والعدل والمساواة والتي قامت عليها هذه المنظمة العريقة منذ أكثر من ستة عقود دون أن نجد تطبيقاً لأي منها على أرض الواقع، فلا السلام تحقق ولا ساد العدل، بينما المساواة تقف خائبة على باب قاعة قريبة للجمعية العامة حيث مجلس الأمن الدولي الذي يكفي أن يقول أحد عظمائه الخمسة لا "الفيتو" حتى ينقض أي قرار أجمعت عليه كل دول العالم وشعوب الأرض بلا استثناء.
فما أشبه الراعي الكاذب بالمهيمنين على الأمم المتحدة والذين اعتادوا دعوة اجتماعاتها من شهر سبتمبر من كل عام ليكتشفوا بعد تلبية الدعوة وتصديق الخطاب أن لا شيء مما يقال ولا وعد تحقق فإذا كانت نهاية الراعي هي الموت مع قطيعه فكيف ستكون نهايتنا نحن مع الأمم المتحدة يجب إذن: أن نكون واقعيين في وضع تصوراتنا عن الأمم المتحدة فهذه المنظمة التي أنشأها الكبار المنتصرين في الحرب العالمية الثانية لترسيخ تفوقهم العسكري وانتصارهم الحربي وتحويله إلى هيمنة سياسية وقانونية تحت مظلة دولية فكانت هذه المنظمة التي رسم الكبار خطوطها وصاغوا ميثاقها في مؤتمرات عدة جمعت روزفلن وتشرشل وستالين أو ممثليهم الذين صاغوا مطالبهم ورسخوا امتيازاتهم في مؤتمر أوكس الذي اقتصر عليهم قبل أن يجمعوا بقية دول العالم التابع لهم في مؤتمر سان فرانسيسكو والذي اقتصر دور المشاركين فيه على المصادقة على امتيازات الكبار والتصفيق لهم.
ومن هنا يتعين علينا أن نفهم فلسفة ما يجري فهي منظمة امتيازات الكبار ومن لا يعجبه هذا الواقع فعليه أن يفكر بالرحيل أو أن يقدم البديل الواقعي القابل للتنفيذ طوعاً أو بوسائل أخرى وليس من خلال تمني أو تبني الحلول السحرية الحالمة كإلغاء سلطة الفيتو الممنوحة للجنة الكبار المبشرين بالجنة في مجلس الأمن لأن هؤلاء الكبار كانوا شديدي الذكاء والدهاء فوضعوا في الميثاق ذاته نصاً يعتبر أي تعديل للميثاق كإلغاء الفيتو أو توسيعه أو تقييده يحتاج إلى أغلبية ثلثي أعضاء الأمم المتحدة، إضافة إلى ضرورة موافقة الخمسة الكبار على هذا التعديل وهنا يملك هؤلاء سلطة الفيتو لإجهاض أي تعديل قد ينقض من سلطانهم وامتيازاتهم بمعنى أن إلغاء الفيتو سينقض بالفيتو ذاته، وحتى نكون منصفين فلا يجوز إنكار أن الأمم المتحدة قد حققت إنجازات في مجالات مختلفة من خلال إبرام الكثير من المعاهدات الدولية لتنظيم إدارة العلاقات الدولية ولكن ما فائدة كل هذه المعاهدات إذا كانت تطوي أو تنتهك بمجرد تعرضها مع مصالح الكبار أو المحميين من قبلهم، فما أهمية كل قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف إذا كانت الدول الكبرى لا تحترمها في حروبها، كما حدث في الصومال والعراق وأفغانستان؟ وما قيمة كل نصوص القانون الدولي الجزائي والمحكمة الدولية إذا كانت عاجزة عن سوق مجرم حرب إسرائيلي واحد إلى منصات العدالة: وما جدوى نصوص اتفاقيات حظر أسلحة الدمار الشامل إذا كانت إسرائيل بترسانتها النووية محيّدة عنها وخارج دائرة رقابتها ومسالمتها؟ والفارق هنا أن النجاح الجزئي لبعض منظمات الأمم المتحدة في مجالات محددة إنما هو فشل ممارسات أجهزة أخرى تابعة للأمم المتحدة ذاتها فسعادة البعض وافتخاره بالمساعدات التي تقدمها مفوضية الأمم المتحدة للاجئين على سبيل المثال يتجاهل أن قضايا اللاجئين إنما هي نتيجة حروب الكبار المسيطرين والمهمين على الأمم المتحدة في أغلب الحالات، كما هو الحال في العراق أو لسبب عجز مجلس الأمن عن إيجاد تسوية سلمية لمنازعات دولية أو داخلية أخرى بسبب تعارض المصالح وتضاربها بين كباره مما يشل قدرته ويجعله عاجزاً عن ممارسة صلاحياته الواسعة المنصوص عليها في الميثاق، وجهود الأمم المتحدة في مجال مواجهة الفقر تتناسى أن سبب هذه المشكلة استنزاف ثروات دول العالم الفقيرة من قبل الدول الاستعمارية التي تهيمن الآن على الأمم المتحدة في مراحل تاريخية سابقة علماً أن هذه السياسة لم تتغير بعد باعتبار أن المستعمر وإن كان قد رحل شكلياً إلا أنه أبقى في الكثير من دول العالم ومستعمراته السابقة أنظمة حكم لا تزال تؤدي الدور ذاته والمهمة بالوكالة عن المستعمر القديم ولحسابه..
وهكذا باتت الأمم المتحدة من خلال المهيمنين عليها كمن يجرح كثيراً ويداوي قليلاً وهو ما لا يجعلنا نحس بمشاعر الامتنان والعرفان، والخطورة في كل ما يجري أنه وقبل إنشاء منظمة الأمم المتحدة كانت توجد منظمة دولية أخرى تؤدي الدور نفسه والمهام ذاتها وهي عصبة الأمم التي وجهت لها الاتهامات ذاتها التي توجه الآن لمنظمة الأمم المتحدة من حيث الفشل والتسييس والعجز وازدواجية المعاملة فانهارت وكان هذا إيذاناً باندلاع نيران الحرب العالمية الثانية وهو ما لا نريد تكراره من جديد إذن... يبقى أمام الجميع أحد حلين... إما أن يقتنع الكبار المهيمنون بخطورة ما يجري وعدم جدوى تسويق الأوهام والأكاذيب ذاتها فيرضخوا لفكرة إجراء إصلاحات جذرية عادلة ومتوازية على ميثاق هذه المنظمة الدولية بصورة تعزز من قدرتها على تحقيق أهدافها السامية النبيلة أو أن ينسحب منها المعترضون عليها والمتضررون منها، فما فائدة البقاء في منظمة يهاجمونها ليل نهار ويتضررون من سياساتها كل الأوقات، فإذا لم ينجحوا بتوحيد جهودهم وتجميع كلمتهم فلا قيمة لكل اعتراضاتهم وكلماتهم الإنسانية الرنانة، علماً بأنه في تلك القصة يكون الهلاك هو نصيب القطيع وهو وحده يتحمل الأذى والعقاب ويستمر الراعي ومنذ أكثر من ستة عقود بترديد الأكاذيب ذاتها في ظل التواطؤ معه.
عبد الرحمن حسن رياله