عادت بي الذكرى إلى ذلك اليوم البعيد في خريف عام 1988، وبالتحديد شهر أغسطس منه حيث تكثر البروق والرعود وتتلبّد السماء بالسحب ويعتكر ماء النيل وتزدهي صحاري ووديان السودان الشاسعة بخضرة بديعة تنسي الناس جفاف شهور الصيف الممتد وحرقة شمسها..
في ذلك الشهر أفلح السودانيون دون وساطة.. ودون "مجتمع دولي".. ودون ضغوط أو شد وجذب.. في ابتداع اتفاق سلام بسيط ومباشر توقفت بمقتضاه الحرب اللعينة التي أخذت في الاتساع وكادت أن تأتي على الأخضر واليابس وهدّدت فعلياً حتى استمرار الحياة في السودان الواسع العريق.. أطلق على ذلك الاتفاق الرائع والبسيط "اتفاق الميرغني - قرنق" إشارة لمهندسيه: محمد عثمان الميرغني زعيم الاتحاديين في السودان (ومصر) وجون قرنق القائد العام لجيش تحرير السودان ورئيس الحركة - الشعبية لنفس المسمى.. كما أطلق عليه اتفاق القاهرة - عرفاناً لمكان توقيعه وتقديراً لرعاية قاهرة المعز لجلساته واستضافتها للفرقاء المتحاورين.. كما أطلق عليه أيضاً: (اتفاق السلام السوداني).. لأنه كان سودانياً.. نظيفاً من أية أجندة أجنبية - ولو صديقة.. وما أدراك مالصداقة بين دول اليوم.. ابتهج الناس في السودان.. وطربوا.. لأسباب لا تخفى على عاقل.. فقد كان الاتفاق بسيطاً بساطة أهل السودان.. ومتيناً ومباشراً كما هي أصيلات صفات أهل ذلك البلد.. تكون من أربع بنود فقط: وقف إطلاق النار، تسريح أو إعادة دمج الجيش الشعبي، التعويض للمناطق المتأثرة بالحرب، وتجميد تطبيق الحدود (القطع، الجلد، التشهير) لحين إجراء استفتاء حولها. لم تشمل بنود الاتفاق جيشين منفصلين، ولا قسمة موارد، ولا قسمة سلطة، ولا حدود جديدة للدولة.. الواحدة والتي نصت مقدمة الاتفاق على أنه بلد واحد متعدد الثقافات والأديان- كما هو الحال الراهن والماضي والمستقبل وكان اليوم الذي عاد فيه الوفد الحكومي بقيادة الميرغني إلى الخرطوم أشبه بيوم عودة الخميني إلى طهران من باريس بعد ظفر الثورة هناك.. فقد ازدانت الشوارع، وتقاطر المواطنون من كل المدن المحيطة بالخرطوم: شندى، عطبرة ودمدني، كوستي، وحتى من الأبيض..جاءوا على ظهور القاطرات والشاحنات والحافلات بعشرات الألوف لاستقبال الوفد الذي جاء بذلك الاتفاق.. وهم يقرعون الطبول ويعزفون الأناشيد ويحملون الأغصان الخضراء تفاؤلاً وبشرى وتعبيراً عن انطلاقة أمل جديد.. في بلاد ظل البؤس مخيماً عليها..
ولكن، فيما يبدو، فإن الكل لم يكونوا فرحين... أو سعداء.. فقد أحزن هذا الاتفاق الرائع والبسيط البعض.. وانطلقوا يندّدون بالاتفاق.. بدعوى أنه يحوي بندا لتعطيل الشريعة السمحاء.. وإنهم لن يقبلوا بذلك: "فدون ذلك المهج والأرواح".. وأعلنوا "الجهاد"..
ولإكمال سيناريو الخذي وقتل الفرحة وهي بعد وليدة كالزهرة التي تفتحت للتو.. إنزوى رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي بعيداً.. وبخل على صنوه وحليفه في الحكم، الميرغني، حتى من مجاملة الاستقبال في المطار وهو عائد، وقد نجح في مهمة رسمية كلفتها به الحكومة التي يرأسها.. بل ذهب السيد رئيس الوزراء وأخذ معه طاقم التلفزيون الميداني الوحيد إلى أطراف محافظة النيل الأبيض، حيث معقل مؤيديه والذين أقاموا لها استقبالاً كبيراً يوازن الاستقبال الذي حظي به خصمه وحليفه في مطار الخرطوم..وشيئاً فشيئاً مات ذلك الاتفاق الرائع والبسيط، وقتل قتلاً بطيئاً في البرلمان بإثارة الجدل حول الشريعة وما أدراك مالشريعة.. وحواشي الاتفاق ونزهات أخرى.. كانت الانتخابات النيابية على الأبواب.. والمهدي والميرغني خصمان لدودان رغم ما تفرضه ضروات الوجاهة وحتمية الائتلاف بينهما دورة إثر دورة.. فالأحزاب في السودان كثيرة جداً.. ولا يقوى حزب واحد على الحصول على الأصوات اللازمة ليشكل حكومة.. ولابد من حكومة.. فيكون ذلك قدر أهل السودان: تحالف الأضداد .. وتفشل الحكومة.. فتقوم الانقلابات.. وهكذا.. حلقة خبيثة لم يقو السودانيون على الفكاك منها نيفاً وخمسين عاماً.. حتى باتت البلاد على شفا حفرة من التمزق والغرق.. والآن البلد على أعتاب استفتاء.. نتائجه "في الجيب".. ماذا لو تمزق السودان؟! ماذا لو أنهار أكبر بلد إفريقي وعربي وغرقت كل موارده الجمة وراحت هذر!! من الكاسب من وراء ذلك؟ هل يتحول السودانيون إلى لاجئين؟؟؟ كانت تلك خواطري وأنا أسلك طرق الخرطوم وأم درمان وشندى وكوستي ومدني وكسلا.. واسمع أصوات الموسيقى الدافئة والجميلة تنساب عبر "هنا أم درمان" لتبث الطمأنينة وحب الخير في نفوس ذلك الشعب الباسل والصابر.. والمكافح.. وأتساءل.. يا ترى إلى متى سنظل ننعم بهذا الأمان والدفء؟ على متى سنظل ننعم بشواء البلطر على ضفاف النيل في سوق الموردة؟!! إلى متى سنظل ننعم بطعم ونكهة القهوة السودانية وروائحها المنبعثة من سكان المدينة؟ إلى متى سنظل نقود أطفالنا للمدارس كل صباح، وندلف عائدين على بائع الصحف ننتقي منها ما نشاء ونقرأ في صفحاتها أحلامنا وحكاوي ماضينا التليد!! أخذ العديدون في البكاء.. كما أخذ آخرون في الاستعداد للرحيل.بينما انخرط الكثيرون في إعداد الكتائب.. وشحذ السلام.. وما لم يتداركنا المولى الجليل برحمة منه فنحن مقدمون على شيء مهول.. تشيب منه الولدان ويجعل الحليم أطرشاً.. وكما قال ناعي الأندلس- أو قالت:
أبكوا كالنساء..على ملك لم تحافظوا عليه كالرجال..
والله المستعان على ما يصفون.
ترنيمة من الماضي:
صه يا كنار.. وضع يمينك على يدي
ودع المزاح لذي الطلاقة والرد
ودّع محبّك بالدموع فإنني..
أنا إن دعوتك لن تعيش إلى غد
وألحق بقومك في القيود
فإنني.. أيقنت ألا حر غير مقيّد
سأذود عن وطني.. وأملك دونه
يوماً يجئ.. فيا ملائكة أشهدي..
(الصاغ محمود أبو بكر)
(1936)
البروفيسور/
با بكر عباس