إن ما أمضته البشرية وهي تعيش حياة بدائية يفوق آلاف المرات عمرها وهي أمم متحضرة.. وحين كان الإنسان بدائياً لم تكن هناك حاجة لكثير من مظاهر الحياة التي نألفها اليوم والتي اقتضتها ضرورات الاجتماع والتمدن.. ولكن بالرغم من ذلك، فهناك شواهد ودلائل عديدة على أن الإنسان منذ نضوج الجنس البشري وتحوله من كائن شبيه بالحيوان (الغابي) كان دوماً مأخوذاً بالتعلم والتعاضد في مواجهة الظواهر الطبيعية، والكائنات الأخرى،، فظهرت منظومة السلوكيات الطقوسية (تابو) والتي كانت ترمي لعدة أهداف على رأسها تأمين الغذاء والحماية من المفترسات (والأمراض).. ثم ظهرت الأسرة كوحدة متماسكة ومتميزة (ومتنافسة)، تم ظهرت العشائر، فالقبائل، فالشعوب فالأمم، فنجمت ضرورات اجتماعية جديدة على رأسها الدفاع عن الكيان من أطماع الكيانات الأخرى، ومغالبة الطبيعة لتلبية احتياجات المجموعة المتزايدة، وكما أنتج هذا الحراك حرفيني يجيدون فنون البناء والنجارة وصناعة الأدوات والقوارب وترويض الحيوانات.. إلخ،، ظهر مفكرون وفنانون وفلاسفة انصرف جل همهم للتأمل فيما وراء الطبيعة وما وراء السلوك وما وراء "التابو" .. ثم برزت ضرورة تنظيم فعاليات المجموعة السكانية لكي لا تتناقض وتتعارك، فظهرت "الحكومة".. وكان لابد للحكومات من "قوانين" تبيح جمع المال، وتعاقب المخالفين، وتجهز الجيوش.. وتطورت أنماط الحكم من زعماء العشائر إلى الأمراء فالملوك، إلى أن ابتدع الإغريق والرومان أسلوب الانتخاب وكوّنوا مجالس النواب (السينيت - أي مجلس العقلاء أو الشيوخ) والتي كانت تصدر القوانين وتحاسب القيصر أو الملك والوزراء والنبلاء والتجار.. وفي مخاضها الطويل هذا قاست البشرية الكثير، وتعرّضت لحروب بعضها أوشك على فناء الجنس البشري وأحرق كماً جمّاً من الموارد والمدخرات.. علاوة على تراكم مظالم فردية لا حصر لها تعرض لها الفلاحون وحرفيون وجنود ومفكرين وعباقرة.. ومواطنون بسطاء. لم يكن جل هذه البلايا إلا نتاج مفردة واحدة من مفردات السلوك البشري، التي يتميز بها الإنسان عن سائر الحيوانات الأخرى، ألا وهي "القابلية للانحراف".. والذي يؤدي للظلم.. أو بمعنى آخر قابلية الظلم والتي تنتج عن انحراف ما، أغلبه نفسي، يتوهم فرد ما أنه متميز عن باقي أفراد المجموعة، مما يبيح له الاستئثار بحقوق محرّمة.. يظن الكثيرون أن انحراف فرد ما، الملك مثلاً، أو الأمير، أو رئيس القبلية أو مدير المؤسسة، لا يؤدي بالضرورة إلى خراب المنظومة، لأنه انحراف فردي، وماذا يضير مجموعة تتكون من ثلاثين مليون فرد من انحراف فرد ما؟؟ّ!
أريد أن أبيّن أن ذلك هو العكس تماماً.. وأن الانحراف - وهو ظاهرة بشرية مألوفة، إذا لم يقوّم فإنه حتماً سوف يؤدي لخراب المنظومة، أو البلد، أو البيت، أو المؤسسة.. أياً كان حجمها أو قوتها.. أو عمرها.. ذلك لأن الأخلاق تسري.. أي تتفشى.. فتعم، فينتج عن ذلك التظالم أو "الظلم الاجتماعي" والذي هو رأس رمح التوارث وانفراط عقد المجتمعات.. وانهيار الأمم..
هنالك لائحة قانونية غير مرئية تترسخ بمقتضاها الأخلاق الحميدة، كما الأخلاق السيئة.. ليس كل أفراد المجتمع علماء أو حتى متعلمون.. بل معظم أفراد المجتمع انطباعيون،، ويتأثرون بأنماط السلوك السائدة.. ويتساءل البعض عن دور القانون من ذلك.. فالقانون نصوص (بكماء) مودعة في قراطيس، والمجتمع هو الذي يطبقها.. وهي لا تطبق نفسها، ولا توجد قوة أخرى - سوى الإنسان - تمتلك المقدرة على تطبيقها أو حتى تحريكها من نصوص إلى واقع.. القانون الذي لا يطبق على الجميع.. ليس قانون ولن يحترمه العامة (ولا الخاصة) .. والقضاة لا يستطيعون نفسياً ومهنياً وضميرياً أن يوقعوا عقوبات (رادعة) على فرد ما، إذا كانوا يعلمون أنهم لا يستطيعون توقيع مثل تلك العقوبات على أفراد آخرين.. رجل الشرطة- عين المجتمع لا يستطيع أسفاً أن يردع مواطناً في مخالفة بسيطة أو مؤثرة إذا كان يوقن أنه لا يستطيع أن يعفل ذلك مع الجميع.. والمعلم لا يستطيع أن يطالب التلاميذ بسلوكيات حضارية، في الوقت الذي ينبذها فيه المجتمع ويذبحها صباح مساء..وهكذا تسري الأخلاق من قمة المجتمع إلى قاعة ومن قاعة إلى قمته في الفترات اللاحقة... فتضم أخلاق الأمة - المجتمع - وتتدهور البيئة - وتكثر الجرائم - ويتفشى الفقر.. عندما أصاب أوروبا كل هذه الرزياء من مطلع القرن الخامس عشر، ووصلت قمتها مع منتصف القرن السادس عشر، ظهرت حركة "التنوير" .. وقادها الفلاسفة، وقاسوا ما قاسوا من الثنائي (القصر والكنيسة) الذي كان يتحكم في الثروات والأخلاق ويبيح إعدام الفلاحين- أو بيعهم- عند أية بادرة ثورة... وقامت الثورة في أوروبا عمومها من شرقها إلى غربها ووسطها وجنوبها، بل امتدت حتى عبر المحيطات.. إننا في إفريقيا نحتاج الفكر .. يؤسس لمرحلة جديدة سعياً وراء رفاهية المواطن في بلادنا، وسعياً نحو النور..

البروفيسور /بابكر عباس