18/11/2010
جاء يوم العيد، يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم. زمن قصير ظريف ضاحك، تفرضه الأديان على الناس، ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها.يوم السلام، والبشر، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان:كل عام وأنتم بخير.يوم الثياب الجديدة على الكل إشعاراً لهم بأنَّ الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم.يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعاً في يوم حب.يوم العيد؛ يوم تقديم الحلوى إلى كلّ فم لتحلو الكلمات فيه.. يوم تعمُّ فيه الناس ألفاظ الدعاء والتهنئة مرتفعة بقوة إلهية فوق منازعات الحياة.يوم التقرب إلي الله بالذبيحة واطعام ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، وإلى أهله نظرة تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرة تدرك الجمال، وإلى الناس نظرة ترى الصداقة.ومن كلّ هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم؛ فتبتهج نفسه بالعالم والحياة.وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أنَّ الكل جماله في الكل! وخرجنا نجتلي العيد في مظهره الحقيقي على هؤلاء الأطفال السعداء. على هذه الوجوه النضرة التي كبرت فيها ابتسامات الرضا فصارت ضحكات. وهذه العيون الحالمة التي إذا بكت بكت بدموع لا ثقل لها.وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم. وهذه الأجسام الغضة القريبة العهد بالضمَّات واللَّثمات فلا يزال حولها جو القلب.على هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون قياساً للزمن إلا بالسرور. وكلّ منهم ملكٌ في مملكة، وظرفهم هو أمرهم المملوكي.. هؤلاء المجتمعين في ثيابهم الجديدة المصبغة. ثياب عملت فيها المصانع والقلوب، فلا يتم جمالها إلا بأن يراها الأب والأم على أطفالهما. ثياب جديدة يلبسونها فيكونون هم أنفسهم ثوباً جديداً على الدنيا..هؤلاء السحرة الصغار الذين يخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من قرشين.. ويسحرون العيد فإذا هو يوم صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللعب.. وينتبهون في هذا اليوم مع الفجر، فيبقى الفجر على قلوبهم إلى غروب الشمس..
ويلقون أنفسهم على العالم المنظور، فيبنون كلّ شيء على أحد المعنيين الثابتين في نفس الطفل: الحبّ الخالص، واللهو الخالص. ويبتعدون بطبيعتهم عن أكاذيب الحياة، فيكون هذا بعينه هو قربهم من حقيقتها السعيدة.هؤلاء الأطفال الذين هم السهولة قبل أن تتعقَّد..
ويأخذون من الأشياء لأنفسهم فيفرحون بها، ولا يأخذون من أنفسهم للأشياء كيلا يوجدوا لها الهمّ.و العيد للأمة ليس إلا يوماً تعرضُ فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع؛ يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب فقط وتعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد بكامله وكأنه لأهله دارٌ واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهرُ فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع، ويهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها.ولعل من الأمور التي نأسف لها ونشعر بها تؤثر فينا تأثيرا كبيرا وعميقا في الوقت نفسه هو تغير النفوس من حولنا عن طبيعتها، وفي كيفية تعاملها معنا بشكل يختلف عما اعتدنا عليه منها دون أن نعرف أسباباً أو دواعي لذلك التغيير، خاصة ان كانت العلاقات التي تربطنا بتلك النفوس وثيقة تحمل في طياتها تفاصيل لا يمكن نسيانها أو حتى اختزالها في مساحة صغيرة من الذاكرة، ذلك أنها نفوس سكنت النفوس، وأرواح سكنت الأرواح فباتت قريبة إلينا وكأنها جزء منا.
في اللحظات التي نشعر فيها بذلك التغيير الذي يعتصر قلوبنا نتساءل: يا ترى كم سنعيش في هذه الحياة لنبقى بين رضا وسخط ولوم وعتاب؟ وكم بقي من الزمن الذي نملك فيه رد النفوس إلى أحوالها؟
وكم من الأوقات الباقية التي يمكننا أن نعوض فيها أياماً أضعناها في خصام ما كنا سنسلم أنفسنا إليه لو كانت لدينا قناعة بأن هذه الدنيا زائلة لا تستحق أن نبقي في أنفسنا مساحة ضيق لأي سبب كان، فقد خلقنا فيها لغرض العبادة، وجئنا إليها ضيوفاً وزائرين لا مخلّدين، فهل نغتنم هذا العيد لنحيل أنفسنا لتغيير من نوع آخر تصفو فيه النفوس وتعود إلى طبيعتها، تاركة خلفها عوارض لا تستحق الوقوف عندها أو تخصيص مساحات كبرى لها؟
هل ننسى جروحا وأخطاء تسبب فيها بعضهم فتركوا آثاراً مؤلمة في نفوس لم تعتد على ذلك؟ هل نغفر ونعفو ونبادر لصفح لا يمكن أن تحلو الحياة دونه؟ هل نذكر جميل من تغيرنا تجاههم فنبدد مساحات العتب تلك التي تضيع الوقت علينا وعليهم؟ هل نجدد قناعتنا بأن الدنيا فانية ولا تستحق منا أن نكابر ونجافي من جمعنا بهم موقف، ومن لهم في نفوسنا مساحات من الحب والتقدير الكبيرين؟ نأمل أن يكون هذا العيد صفحة جديدة لكثيرين ممن أخذتهم الدنيا على حين غرة، فزينت لهم التغير على من حولهم، وزينت لهم التجافي والتباغض، وجعلت صغار الأمور في نظرهم كبيرة، وقضت على ملكة العفو تلك التي جبلنا عليها كخلق لا نملك العيش بدونها وإلا أصبحت حياتنا أشبه ما تكون بحرب لا تنطفئ نيرانها، ولأقمنا في الحياة فرادى بعد أن تقطعت سبل الاتصال بمن حولنا.
جمال أحمد ديني