شاركني في مقعدي أثناء إنتظار دوري في إحدى المستشفيات سيدُ في الستينات من عمره من إحدى البلدان العربية الشقيقة، فبعد أن تعرفت عليه وتعرف عليَ تجاذ بنا أطراف الحديث وبدأء يحدثني عن ذالك الزمن الذي نشأء فيه وعاش في ايامه الذهبية حسب وصفه مقارنا إياه بهذ الزمن الذي نعيش فيه والذي وصفه بزمن العجائب..
فقال لي: أتدري يا بني انني بين الحين والآخر أجدني مضطرا ومدفوعا بقوة للوقوف متأملا ومقارنا بين أمس ولّى وحاضر معاش، بين جيل مضى له خصائصه وميزاته و له سماته التي انفرد بها فأصبحت اليوم جزءا من التراث الذي نعتز به ونباهي، ونحنّ إلى ماض حافل بكثير من الإيجابيات والإنجازات.. ماض لعب فيه جيل الأجداد والآباء دورا فاعلا فبنوا وشيدوا على أسس قوية راسخة تشهد لهم بطول الباع ورسوخ القدم.. يدفعهم لذلك حرصهم على أن يحيا الأبناء والأحفاد حياة رغدة هانئة خلافا لمعاناة السلف. وبين جيل حاضر تنكّر معظمه للماضي وأدار له ظهره فغرّته الحياة الجديدة ببرقها الخلّب وزينتها الخادعة التي تروق للشباب وتستهويه وتشبع تطلعه وجريه وراء كل جديد
نقارن فنجد البون شاسعا والفرق كبيرا، فما كان مباحا بالأمس أصبح مستغربا ومستهجنا اليوم !
شيء لا يكاد يصدّق، كان مجرد خيال فأضحى حقيقة ماثلة للعيان، وواقعا يؤخذ في الحسبان. ما نعيشه اليوم ما كان ليخطر لنا على بال، وربما ما كان جيلنا يجرؤ حتى على مجرد التفكير به لأنه ربما كان من المحرمات والمحظورات وحقلا مليئا بالألغام يقتضي السير فيه حذرا شديدا وانتباها كاملا.. وإلا فويل له تتناوشه السهام من كل جانب وتنثال عليه الأقاويل والاتهامات من كل حد ب وصوب، فيصبح مادة دسمة للتشهير والتنديد.
من كان يصدّق أن يطال التغيير كل شيء حتى الثوابت التي ترعرعت على التمسك بها الأجيال وكانت لديهم من المقدسات المنزهة عن كل شك أو تهمة!. لقد تغيرت الشعارات إلى حد يثير كثيرا من التساؤلات و يملأ النفس حسرات فتتعالى الزفرات والآهات مشبعة بالآلام مفرغة من الآمال.
كانت فلسطين قضية المسلمين الأولى ومحور ارتكاز علاقاتهم الدولية، وكانت من المقدسات التي لا يجرؤ أحد على المساس بها أو الاقتراب منها إلا أننا عشنا اليوم لنرى أحد الساسة في جنوب السودان يصرخ بملء فيه وبلا مواربة أن أول أولياتهم هو إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بل ويذهب إلى حد القول: إذا كانت إسرائيل عدوا للفلسطينيين فهي ليست عدوا لنا، أمر يذهل العقول ويشدهها.. كيف تحوّل البعض إلى المجاهرة بصداقة إسرائيل والحرص عليها في الوقت الذي يعادي فيه أبناء وطنه وكأنهم لم يكونوا يوما مواطنين إخوة في وطن واحد منذ قرون عديدة تقاسموا السراء والضراءّ زمن عجيب اليس كذلك يا بني؟..قلت: بلى! إنه زمن عجيب. واصل حديثه فقال: لقد تغيّرت المفاهيم وتبدلت الثوابت وانقلبت الأمور رأسا على عقب.. ففي زماننا هذا ألكرم إسراف وتبذير.. والبخل تعقل وتدبير.. والحكمة عجز وعيّ.. وطول اللسان فصاحة وبيان.. والحشمة تأخر ورجعية.. بينما العري موضة وتقدم. وطال التغيير المجتمع فتفككت عراه وتقطعت أوصاله، تراجعت روح الجماعة وسادت الأنانية وحب الذات.. كل يعمل لنفسه دونما اعتبار لأحد سواه.. وهذا شيء بدا واضحا لدى جيل اليوم الذي يقضي معظم وقته في التعامل مع "اللاب توب" بلا كلل أو ملل ومع متابعة الأفلام ومباريات الكرة، وهذه تجمعهم أحيانا وتفرقهم أحيانا أخرى.
جيل الأمس كان حلمه وحدة العالم الإسلامي ويرى أن ذلك قريب المنال وسيتحقق مهما كانت الصعوبات والعراقيل لكننا نرى أن النزعة الانفصالية هي الغالبة و السائدة وبات يجاهر بها أصحابها بلا خجل أو وجل وكأنها أصبحت هدفا وأملا يتطلعون إليه بشغف. تطغى هذه النزعة المقيتة على كثير من أقطار عالمنا العربي والإسلامي في العراق والسودان والصومال و"الحبل على الجرّار" كما يقال، أصبحت هذه نماذج تحتذى وكان ما تشهده من حوادث سيجلب السمن والعسل ويشيع الأمن والاستقرار.. زمن عجيب حقا؟!
إلى أين يتجه عالمنا العربي والإسلامي يا ترى؟ وماذا ينتظر العقلاء والحكماء فيه؟ أليس هذا زمنهم ليتولوا قيادة السفينة والوصول بها إلى بر الأمان قبل أن تغرق وتغرق معها الأمة جميعا. فالمصير واحد.. لا يمكن أن يهرب منه أحد أو ينجو منه أحد..
وبينما انا استمتع بحديث الرجل وأستمع إليه بآذان صاغية إذا بالممرضة تنادي بإسمي فقمت لأقابل الطبيب.
فيصل مختار
Minnesota, USA