يبدو أن زيارة سعد الحريري رئيس الوزراء اللبناني إلى إيران يعتبر تراث الأمة العربية "الدرامي" وأحزانه اللامحدودة، وأظن أنه سيبقى قادراً على أن يفرض نفسه وبقوة على كل بارقة أمل أو تفاؤل على نحو ما يحدث هذه الأيام في ظل ما يمكن وصفه "هبة" الأتراك في وجه الكيان الصهيوني هذا التراث الدرامي المفعم بالحزن والحسرة يجعل المرء يستعيذ بالله عندما تفاجئه بعض نسمات من الفرح العارض وبقول "اللهم اجعله خيراً" نقول ذلك الآن ونحن نكتم سعادتنا بما يمكن وصفه بــ"العودة التركية" مجدداً إلى أمة العرب والمسلمين ليقف في وجه الكيان الصهيوني وأعوانه وقفة عزة وكبرياء قادرة على أن نقول له وبصوت عال كل ما أصبح من "المحرمات" التي نجح في أن يفرضها على النظام العربي وأن تستعيد "فلسطين" مجدداً شعار الحرية والكرامة والوحدة لقد وقعت على رؤوس العرب مآس كثيرة أوصلتهم إلى هذه الحال التي هم عليها الآن من الخضوع والمذلة والانكسار لكن ما هو أخطر هو الانقسام والذاتية والأنانية المفرطة واليأس من المستقبل ، من الوحدة ومن التحرر والتقدم والنتيجة هي تغوّل واستئساد الكيان الصهيوني وتحوله إلى قوة إقليمية عظمى وما حدث بين العرب حدث بينهم وبين جيرانهم وخاصة إيران وتركيا ولذلك أخذ السؤال المر يفرض نفسه بإلحاح هذه الأيام هل يمكن أن يكرر العرب ما فعلته مع إيران وتركيا عندما عادا متحررين من التبعية راغبين في الانخراط القوي إلى جانب العرب في صراعهم مع الكيان الصهيوني وأعوانهم من المستعمرين والمستكبرين؟
في العقود الثلاثة التي أعقبت نكبة عام 1948 كانت إيران الشاهنشانية وتركيا الكمالية هما أهم قاعدتين لأمريكا وحلف شمال الأطلسي في إستراتيجية إحكام الحصار ضد الاتحاد السوفييتي والحقيقة كانتا تقومان بالدور ذاته وشكلتا "فكي كماشة" يمكنه أن يقبض ويضغط على الاتحاد السوفييتي وكان المطلوب توفير ظهير عربي داعم لهذه الكماشة وربط أطراف سلسلة الأحلاف الأمريكية المحيطة والمحاصرة للاتحاد السوفييتي بحلف جديد يربط بين باكستان وتركيا ويضم إيران والدول العربية، وعندما رقص العرب وكانت مصر هي القائدة القادرة على أن ترفض وتطرح البدائل، كانت البوصلة المصرية واضحة وكان الفرز دقيقاً ولم يكن هناك أدنى شك بأن فلسطين هي معيار هذا الفرز الذي تحدد وفقاً له صدقان العرب وعدوانهم، ففلسطين ترسخت في الوعي الثوري للقيادة المصرية وصارت مفتاح المستقبل العربي منها يدخل العرب إلى المستقبل ومنها يخرجون وهكذا كانت "فلسطين البوصلة" وبها دخل العرب في صراع مع إيران الشاه وتركيا الآتاتوركية الأطلسية يعد أن تحالف الطرفان مع الكيان الصهيوني وتعاملا معه باعتبارهما من يمثلان ركائز المشروع الغربي الاستعماري في الشرق الأوسط، لقد كانت المعارك التي خاضتها مصر والأمة معها ضد مشروع وسياسة الأحلاف حرباً من أجل فلسطين بقدر ما كانت دفاعاً عن المستقبل وشعاراته الكبرى كانت حرباً من أجل الحرية والاستقلال والوحدة والتقدم.
عقود ثلاثة كاملة كان "مكر التاريخ" هو البطل الأوحد الذي يقود المعارك في الوقت الذي حمل العرب من دون غيرهم من القوى الإسلامية الكبرى مسؤولية الدفاع عن فلسطين كانت هذه القوى تعمل في الطرف الآخر المعادي، كانت إيران الشاه وتركيا الآتاتوركية الكمالية ركيزتين للمشروع الغربي الصهيوني، لكن للأسف كانت هناك أيضاً بعض الركائز العربية لهذا المشروع عندما خرجت أطراف عربية عن السرب وغردّت خارجة وفرضت على الأمة أن تخوض ما أسماه بعض الساسة بــ" الحرب الباردة العربية" التي نجحت في أن تقصم ظهر العرب وتمزق وحدتهم حتى تدافعت النكبات ابتداءً من نكبة الانفصال عام 1961م وسقوط دولة الوحدة العربية لأسباب كثيرة كان أبرزها "التآمر العربي" ثم نكسة 1967م ثم وفاة جمال عبد الناصر وبعدها نكبة اتفاقية السلامة المصري الإسرائيلي" عام 1979م وهناك بالتحديد لعب "مكر التاريخ" دوره الأعظم إذ قدر في هذا العام أن تعود إيران بعد أن خرجت مصر عادت إيران بثورتها التي رفعت شعار فلسطين في الوقت الذي خرجت مصر من حلبة الصراع مع الكيان الصهيوني وكما تعرضت مصر الناصرية للتآمر تعرضت إيران الثورة للتآمر ربما من الأطراف الدولية والإقليمية نفسها فكانت الحرب العراقية - الإيرانية منذ ذلك العهد والعرب في عراك وانقسام مع إيران وحولها لأسباب كثيرة وأخطاء عربية اكتشفت بعضها في هذه الأيام، لكن كانت فلسطين من أهم الأسباب هل يمكن أن يتكرر الخطأ العربي الذي حدث مع إيران ومع تركيا ليتحول إلى خطيئة تاريخية، هنا يفرض التراث الدرامي للأمة نفسه مجدداً ليبدد فرحة العودة التركية وإيران، عودة تفرض نفسها من باب كسر الحصار المفروض على غزة الصامدة وهو حصار كان بعض العرب ومازالوا شركاء فيه ، تركيا تعود من طريق معاكس للطريق الذي سار فيه النظام العربي منذ سنوات طريق التبعية والتنازلات المجانية، والسؤال هل سيعود الانسجام العقائدي والتاريخ والتربة الذي جعل العرب والعجم أمة واحدة، وأسئلة صعبة تفرضها مرارات تاريخية نحن أبطالها لكن يبقى الأمل يتجدد ما بقيت العقيدة وصلة الحدود والكعبة المشرفة.

عبد الرحمن حسن رياله