لقد بات في حكم المؤكد أن مولوداً جديداً سوف يطل على الدنيا مطلع العام الجديد .. يخرج من رحم معاناة ومشاحنات : استمرت قرابة قرن كامل في السودان ..يطل هذا المولود الجديد وسط توجس؟.؟.؟ البعض ، وفرحة الآخر ،، ووسط بحار من المخاوف ونذر الفشل تتجاذب مداً وجذراً مع أمواج من التفاؤل والغبطة وبشريات عديدة ، بأن المولود الجديد . وإن لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب أو عسل ، فإنه يولد وفي خزانة والديه كنوز من النفط والنحاس والماس ، والباباي والأناس ، وقطعان. لا يعلم عددها إلا الخالق من الأفيال والأسود والنمور والغزلان وشتى أنواع الحياة البرية النادرة ، وغابات كثيفة تمتد آلاف الأميال من اشجار الأبنوس ؟.؟.؟ والمهوقن والتيك والخيزران ، مساحات لا نهاية لها من المراعى المخضرة طوال العام ، وأطول شبكة انهار في العالم بأسره ، وتقدر مساحتها بستة وستين الفاً كليومتر من المياه العذبة – الجارية ... أمطار لا تنقطع .. وتربة خصبة .. وطقس جميل طوال العام .. لقد اضعنا – نحن أهل شمال السوادان – جنوبنا . وغابت عن سياسينا الحكمة طوال 55 عام من الحكم الوطني . . وحرمنا إنسان الجنوب حقوقه في المواطنة الهادئة والعاملة كما حرمناه حلمه المدعوم بالسعي الجاد في العيش في كنف وطن واحد – دون أن يكون مواطناً من الدرجة الثانية .
صوت قياديو جنوب السودان للوحدة عام 1947 في مؤتمر جوبا الشهير ، والذي نظمه الحكم البريطاني أملا في أن تأتي الدعوة للتقسيم من أفكاه صفوة الجنوب حتى تكون ذريعة لهم ( الانجليز ) لتحقيق مخططهم الاستراتيجي لفصل جنوب السودان عن شماله ، لإ يقاف كل مساعي الاندماج والتي كان من المؤمل أن تجعل السودان أنموذجاً للتلاحم والتوحد الأفريقي رغم الأختلاف والتباين .. تم صوت الجنوبيون مرة ثانية للوحدة عام 1956 ، آملين أن يظلوا في سوادان واحد ، مع مراعاة منحهم الحكم الذاتي داخل الوطن الواحد ،،، وتلكأ الشمال في الوفاء بوعده فكانت حرب 1957-1972 ثم قبل الجنوبيون ، ,للمرة الثالثة الوحدة ، وفق التفاقية أديس أبابا (1972) مع تمتعهم بالحكم الذاتي .. فنكس ساسة الشمال عن تعهداتهم ، والتفوا حول الاتفاقية وخرجوا على روحها ونصوصها ، فكانت الحرب مرة ثالثة (1982) والتي امتدت حتى 2005 ، حيث كانت نيفاشا .
وفي حين رفض ساسة الشمال اتفاقاً لوقف الحرب دون استفتاء ، ودون قسمة سلطة أو ثروة ، ودون جيشين وهلم جراً ، عام 1988 ، وواصلوا الحرب اللعون التي قضت على كل عري الوحدة وحطمت وجدان الجنوب لأن الحرب هذه المرة كانت تدار بدعاوي الجهاد والاستشهاد .. فأيقن الجنوبيون ألا فائدة ولا جدوى في التوحد مع " قبائل" ترميهم بالكفر وتقيم ضدهم جهادا مقدساً ..ومن المدهش والمحزن أن ساسة الشمال والذين رفضوا اتفاق 1988 النظيف والمباشر ، قبلوا اتفاق نيفاشا الملفوف ، وشرع الناس ، بعد أقل من عام من الاتفاق في ترسيم الحدود وقسمة الثروة ، وخلق جيشين ، وتسليم حكم الجنوب بأسره لقوات الحركة الشعبية علاوة على مشاركتها بثلاثين في المائة من حكم الشمال .. فأي الاتفاقين كان أجدى وأصلح ؟ !! هنيئاً لأهل الجنوب بدولتهم الوليدة .. وهنيئاً لهم التنعم – ولو نفسياً – بالمواطنة الكاملة والنشيد الوطني والقصر الجمهوري والجواز .. والجنسية .. لقد كان أهل جنوب السوادان هم دوماً الأكثر سعيا للوحدة ،، وكانوا الأكثر جدية في التعاطي مع قضايا الوطن الكبير ،و قد ضربنا نحن أهل الشمال بكل ذلك عرض الحائط ، ولم نلتقط القفاز الذي القوه لنا طائعين قرابة قرن كامل من الزمان .. ونجئ اليوم نحاول الجرى عكس التاريخ ، وساعين لا نتزاع ذات القفاز عنوة أو بالمكر والخداع ..
يتصايح البعض منا ، و؟.؟.؟. وينذرون بالشؤم ، ويحذرون من لدولة الفاشلة ن والتباين العرقي ، والأمية ، والجهل .. الخ . كأن شمال السودان طاهر من كل ذلك ؟!! والغريب في الأمر أن نفس الدعاوي التي يتصايح بها ساسة ودعاة الشمال اليوم ، هي نفس الأطروحات التي جاد بها دعاة وحدة دولة الحكم الثنائي مطلع استقلال السودان ، وأطلقوا نفس الوعيد ، وذكروا نفس الوعيد ، وذكروا نفس الحجج من التباين والأمية ، ووعورة الطرق .. الخ .. دليلاً على حتمية فشل الدولة الوليدة . . بل أن مذكرة شهيرة رفعها مستشارون ملكيون بريطانيون هددت بأن العدالة سوف تنهار في السودان لعدم مقدرة السودانيين على إدارة القضاء نسبة للقبلية والتخلف وصعوبة الاتصال !! . ولم يحدث شئ من ذلك .. بل أبحرت سفينة السودان هادئة قوية و تحالفت مها نفس القوى التي هددت بانهيارها ، بل وفي بعض العقود الماضية صار السودان الدولة المفضلة في تعاملاتهم ..؟.؟.؟ !! فاذدهر السودان .. إلى أن جاء العمى والتسلط ، وغابت الحكمة . وانتشر الجهل بفعل أيدينا وساستنا على مر العقود .. هنيئاً لألاف الأصدقاء في جنوب السودان بدولتهم الجديدة .. وإذا تعامل أهل الجنوب مع بعضهم بالحكمة والتراضي..؟.؟.؟ ، فإن دولتهم ستكون انموذجاً ، بل معجزة ،، ولا يضير ذلك إن بدأوا من تحت الصفر .. فكثير من الأمور تبدأ هناك .. آمل صادقاً أن تسود الحكمة ساستنا في شمال السوادان ، وأن يحسنوا إدارة ما يتبقى من البلاد حتى لا يتبعثر البلد بأسره ،، كما آمل أن يسود العقل والحكمة في التعامل مع الدولة الجديدة ، دون وصاية أو أدعاء أبوة ، بل تعامل إنساني وأخوى ,استراتيجي ، يرمي للمستقبل ويضمد جراح الماضي .. فنحن نتعامل مع الشرق والغرب .. ولا يعقل ألا نتعامل مع الجنوب ..إن أبناء الرجل الواحد يتوارثون ، ويتقاسمون كل شيء ،، وإن حصل شيء من ذلك ، فإنما يتبن تماماً غياب الحكمة . إلى الأبد والسباحة ضد التيار .. وما سبح أحد ضد التيار إلا غرق.
والله المستعان
بروفسير بابكر عباس حمدان