20/1/2011
ظل ملف الهوية السودانية، مسار جدل واسع وعريض منذ سنوات ما قبل الاستقلال.. وكتب العديدون وقدموا العديد من الأطروحات الداعية للهوية السودانية المتميزة بدعوى أن السودانيون بتكوينهم المعروف يشكلون قومية متميزة يجب أن تخاطبها وتستجيب لمستلزماتها النخب السياسية.. وتضع وتعمق ما يبرز هذه الهوية- المتميزة على الأرض، من أجل أن تنصهر الاثنيات المتعددة في أمة واحدة.. وضربت الأمثلة التاريخية: أمريكا .. الهند.. أوروبا.. بل وكل الأمم . لا توجد أمة نقيّة.. ولا توجد أمة من عرق واحد.. تلك هي القبائل.. بل حتى العديد من القبائل ما هي إلا تجمع واسع من عشائر وأفخاذ فالدول التي تدعى العروبة مثلاً- يخالط دماؤها البربر والحبشة والفرس والترك والروم والإغريق والهنود والنوبة....ولكن انتهجت النخبة السياسية في السودان نهجاً أقل ما يوصف به أنه نهج انفصامي.
وظلت ترتمي في أصناف انتماء عربي مزعوم، وبصورة صارقة نفّرت الكثيرين ممن كانوا- ولا يزالون- يرون في سودانيتهم سياجاً جامعاً.. والتقفت ذلك العديد من اللافتات والكيانات السياسية التي كانت تعج بها الساحة في المنطقة في الستينات والسبعينات .. وأخذت تدعم هذا التيار العروبي والمغالي في عروبته على حساب أصالته الإفريقية.
وبالرغم من كل ذلك، وضد كل التوقعات، تمكنت الشخصية (والهوية) السودانية – من النمو.. واتخذت اللغة العربية مكان الصدارة في التخاطب القبلي، وتزاوج الناس وحدث انصهار تلقائي استفاد من مكونات الشخصية- السودانية المتمثلة في التعايش والتراحم والانفتاح على الغريب، فلا غرو.. فللسودان حدود مع ثمان أو تسع دول، بعضها "عربي" والآخر "إفريقي".. وظلت هذه الحدود مفتوحة- منذ القدم وحتى اليوم.. فتمازج في السودان النوبة والعرب والحبش والبربر والإغريق والرومان والأتراك والأقباط وأنتج كل ذلك هذا التنوع البديع في السحنات والملامح، ولكن ظل العرق السوداني سائداً... وتألفت أمة بديعة، ومتنوعة، ومتوثبة ومبدعة في كل شيء..
ولكن ظلت النخب السياسية تدفن رأسها في الرمال وتغفل كل ذلك، وفي تقريري فإن النخب السياسية كانت تستمد بقاءها في السلطة من هذا القربان المسموم.. إذ أن كل الأنظمة السياسية التي حكمت السودان- خاصة الشمولية منها – وهي التي حكمت السودان لأطول فترة في العصر الحديث- كانت تستمد بقاءها في السلطة من دعم نظام عربي أو آخر.. وكان هاجسها الأكبر إرضاء شريك عربي أو آخر لتستمد منه الدعم وعرى البقاء في الحكم.. وقد استأثرت مصر بالقدح المعلّى في ذلك. كيف لا وهي الجارة الأقدم والأقرب،، وهي ،، وهي التي شاركت في حكم السودان خمسين عاماً.. والسودان يمر به أطول امتداد لنهر النيل، وبه أكبر مساحة أرض قابلة للزراعة وإنتاج الغذاء.. إلخ.. إلخ..العجيب في الآخر أن السودانيين ذبحوا انتماءهم الإفريقي – دون داع أو منطق أو حكمة – لهثاً وراء انتماء عربي مزعوم، دون أن يجنوا ثماراً تذكر لذلك الانتماء.. بل على العكس.. فقد كان انتماء السودان العربي وبالاً عليه، كما ستوضح ذلك أية مقارنة أو تمرين ذهني يستقرئ التاريخ السياسي للسودان الحديث..
في عام 1967 انعقد في الخرطوم- وبمبادرة سودانية خالصة مؤتمر اللاءات الثلاثة الشهير (لا صلح .. لا مفاوضات.. ولا اعتراف بإسرائيل) وتم إيقاف حرب اليمن المستعرة، وانعقد صلح تاريخي بين جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة وجمال عبد الناصر- زعيم القوميين العرب؟ وجمعت بمقتضى ذلك الاتفاق 300 مليون دولار سنوياً لإعادة بناء الجيش المصري بعد نكسة حزيران الشهيرة،، والتي قادت الرئيس ناصر للاستقالة،، وخرج العرب موحدين ومرفوعي الرأس بعد انتكاسة مريعة،، في ذلك الوقت كان العالم الغربي يعد العدة لأجيال العرب المنكسرين وإرغامهم على الصلح وقبول الشروع الأمريكي (الذي سمي اتفاق كامبديفيد فيما بعد).. ولكن مؤتمر اللاءات الثلاثة أجّل ذلك نحوا من عشرين عاماً.. استعاد فيها العرب قوتهم وحاربوا بشرف وقوة (أكتوبر 1973) وخرجوا من الحرب أكثر جرأة وعزة ماذا كانت نتيجة ذلك المؤتمر على السودان؟! في أغسطس من نفس العام 1967 عقدت الوكالة اليهودية العالمية اجتماعاً خطيراً في بروكسل وخرج الاجتماع بقرارات خطيرة كان أهمها قراراً بإذلال السودان إلى الأبد وحرمانه من كافة المساعدات الدولية ومشاريع الاندماج العالمي، وذرع الفتن في ربوعه، مستغلة بذلك التنوع الاثني. والديني. والأدهى من ذلك أن المستفيد الأكبر من ذلك المؤتمر الشهير (مؤتمر اللاءات الثلاث) – وهو النظام المصري، رعى وتبنّى الانقلاب على الساسة السودانيين الذين عقدوا ذلك الاجتماع.. فكانت (ثورة مايو 1967) والتي خططت في القاهرة تحت رعاية النظام الناصري.. وكانت ثورة مايو- بقيادة جعفر النميري ثورة قومية عربية ورفعت شعارات "الوحدة.. الاشتراكية" وهي نفس الشعارات التي كانت ترفعها الثورة المصرية.. وكانت (ثورة مايو) هي المعول الأكبر الذي هدم كل ما بناه السودانيون فوق نحو ما يزيد على المائة العام من الكفاح... فهدموا الديمقراطية، وانقلبوا على كافة الأعراف السودانية، المتمثلة في التسامح والحكمة.. فنصبوا المشانق.. والمجازر والتي راح ضحيتها جمع غفير من أروع مثقفي ومناضلي الحركة الوطنية – والثورية في السودان.وفي ذلك العهد نشأت حرب الجنوب الأخيرة( 1983 – 2005) والتي أدّت الآن إلي الانفصال وناهيك عن أن معظم الشعوب العربية لا تحترم عروبة السودان المزعومة، بل ولا تعترف بها، فإن السودان لم يجن ثمار هذا الانتماء الأحادي الجانب، ولو من باب المجاملة، فظل الشعب السوداني شعباً فقيراً مكافحاً؟ يحتاج لأدوات الإنتاج والمشاريع الكبرى التي تحيل قفاره ووديانه الممتدة على مد البصر إلى واحات ومزارع ومصانع.. فكانت المساعدات العربية هزيلة ومبعثرة يتم الحصول عليها بالاستجداء والمساومات واشتراء المواقف..صار السودان مواجهاً بعداء الغرب وأجهزته ذات النظرة الإستراتيجية البعيدة.. وبعزوف العرب عن مساعدته للخروج من دوامة الفقر، فكانت مساعدات العرب ببناء المساجد وتبني علاج الأفراد وما شابه ذلك من المسكنات.. التي لا توازي خسارة السودان لجواره الإفريقي وفقدان تمتين بنيانه القومي.. وكانت خاتمة الأثافي. غلو الصفوة السودانية في الآونة الأخيرة وذلك بتبنيها –ليس الأطروحة العروبية فحسب بل وإشعال النيران الدينية بتبني أطروحة – الدولة الإسلامية.. في عالم اليوم!! فانفتحت مراجل جهنم كلها على شعب السودان المكافح دفعة واحدة..انظروا إلى هؤلاء المواطنين البسطاء الذين يصطفون في طوابير طويلة وبطيئة انتظاراً للحظة يدلون فيها بأصواتهم في صناديق الاستفتاء على مصير السودان.. إنهم كلهم يألمون.. وتنازعهم شتّى الخواطر.. لقد عاشوا في الشمال معظم أعمارهم.. وولد الكثيرون منهم في الشمال، وعملوا، وتزوجوا وكوّنوا أسراً واشتروا منازل في "الشمال.. ولكنهم الآن يقولون وداعاً... لماذا؟! لقد انتظروا قرابة نصف قرن من الزمان أن يعترف بهم ساسة الشمال، وأن يلموا شملهم وأن يحترموا ديانتهم وأفريقيتهم.. وأن يعيشوا سوياً مع مواطن الشمال في موطن واحد.. ولكن أياً من ذلك لم يحدث.. فالعروبية المزعومة، والشريعة المفترى عليها (قميص عثمان) أدّت لتهميشهم ولإخراجهم من مواطنهم عنوة .. وقسراً.. فالكرامة قبل الرغيف.. والإنسانية قبل الوظيفة.. وتلك هي الأخلاق السودانية.. إنهم سودانيون أصلاء إلى الأبد.. يدفعون بالروح وبالدم قرباناً للعزة والكرامة..إن أي من ينبري لانتشال السودان من وهدته السرمدية، عليه أن يستلهم هذه الدروس.. والعبر.. وأن يوقن يقيناً تاماً ألا بديل للاعتماد على الذات وأن ظهر السودان المكشوف لن يحميه غير أهل السودان أنفسهم.. والله المستعان.
بروفيسور/
با بكر عباس