أسابيع قليلة تلاشت منذ وطأة قدما السندباد جزيرة العجائب.. أتذكر تلك اللحظات التي دلفت فيها الطائرة متوجهاً إلى جيبوتي..إلى جزيرة العجائب.. حقيبتي الصغيرة كانت ترافقني وخيال طفولي راح يرسم لجيبوتي ألف صورة وصورة جميلة.. لم تكن الطائرة تحملني بل نشوة المغامرة والأمنيات الثائرة في صدري وطموح لا حدود له وأمل وثقة بالنفس وبضع آلاف من الدولارات وابتسامة واسعة تتراقص بين قسمات وجهي هم من كان يطير بي نحو مدينة الأحلام لا الطائرة..
هبطت الطائرة مطار جيبوتي.. وما هي إلا نصف ساعة وبضع دقائق متلهفة حتى وصلت مكان صديقي الذي استقبلني بكرم وود وحب ولطف.. كان الوقت ظهراً.. وما إن أقبل العصر إلا والشوق قد شفني لأتقلب في أسواق المدينة.. رافقني في خروجي أستاذ شاب في منتهى النبل والذكاء.. كل شيء في المدينة كان غائب عن ذهني سوى أمر واحد هو نظرة عامة على السوق وتقييمه.. ساعتان مرتا وأنا أتفحص بعين نهمة تفاصيل السوق.. عند عودتنا كانت سحب اليأس تلفني وتلك الأمنيات الجميلة تبخرت... وتزاحمت الأفكار والهموم.. جلست مع نفسي بعد صلاة المغرب كل شيء يقول لي غادر غداً.. من الحماقة أن استسلم لمجرد وهلة قابلت بها السوق.. قلت في نفسي لأمكث أسبوعاً لعل الصورة تتضح أكثر..
مر الآن عدة أسابيع.. بدأت أخطو خطواتي الأولى مع الأغنام وتصديرها.. أدركت أخيراً سر المدينة.. إنها محطة تجارية بكل ما تحمل العبارة من معنى.. إنها مدينة الطموح والمغامرة.. مع أن المدة قصيرة إلا أن المدينة شيئاً فشيئاً بدأت تكشف لي عن مكنونات جمالها وعن ميزات تنفرد بها غير المال والأعمال.. خلال هذه الأسابيع القليلة تلمست بعض جوانب العظمة فيها..
إن أكثر ما شدني بقوة إلى الآن وأذهلني وجعلني في حالة انبهار هو المرأة الجيبوتية.. إنها حالة استثنائية تستحق التأمل..
تلك الثقة والاعتزاز بالنفس والاستقلالية والطموح والتحكم بمصيرها ورسم طريقة حياتها لا تجتمع لأي امرأة إلا في جيبوتي.. هي تاجرة تتقن فنون التجارة أفضل من الرجل.. وأم حنون عطوف بلا حدود ... وقيادية لا يستهان بها.. وأنثى في غاية الأنوثة.. وذات عصامية تبني عش عالمها بنفسها عوداً عوداً وقشة قشة..
كنت أتفاجأ كثيراً حين أجدها هي صاحبة المتجر والمطعم والمكتب والمشغل ومصنع المياه.. وهي مديرة للميناء.. ومع هذا لم تفقد ذاتها كأنثى وأم ولم يكن الرجل محور انطلاقها في الحياة، كما حدث للمرأة الغربية حين كان محور تحريرها وانطلاقها في الحياة هو الرجل فراحت تقلده في كل شيء مضحية بذاتها كأنثى لها كيانها الخاص..
*****
فاطمة بائعة القات صاحبة العقد الستيني بجسدها النحيل وبسمتها المشرقة كصباح عذب.. رواد بضاعتها يتزاحمون ويتدافعون حولها كل يوم مع أن السوق ملئ بمثل بضاعتها.. منظر يذهلني كل يوم.. أن تمتلك قلوب زبائنك قبل امتلاك نقودهم هذه قدرة استثنائية لا تتمتع بها سوى فاطمة الجيبوتية..
******
حسناء صبية ذات الرابعة عشر.. كفراشة تحلق على رواد كفتيريا العم محمد على الكورنيش.. عيناها تتقدان ذكاء وطموح وبراءة.. تطوف بسمتها العذبة على رواد الكفتيريا وشفتاها تتلوان بلطف لا يدركه أحد واجبها المدرسي.. هي طالبة في المرحلة المتوسطة.. ما إن تحين غفلة أو فسحة تنساب خلسه إلى دفترها المدرسي تقلبه بسرعة تستذكر دروسها ووجهها وبسمتها نحو رواد الكفتريا.. يأذن المغرب فتنسل كغزالة وجلة خلف الكفتريا تتوضأ في خشوع ثم تفترش السجادة على الكورنيش لتصلي كملاك طاهر في ثيابها المحتشمة..
منظر رأته عيني لصبية جيبوتية لن أنساه أبداً.. ومثلها في الطموح وبناء الذات كثير في مدينة الأحلام جيبوتي...
في بهو البنك تردد على مسمعي هتاف ينادي مليون مليون.. الاسم بدأ لي مألوفاً.. فقد تردد على أذني في اليمن.. كموسيقى ندية انساب صوتها في أذني وهي تقول نعم..
أدرت جسدي نحو مصدر الصوت.. إذن هذه هي إحدى شهيرات سيدات أعمال جيبوتي.. ثيابها المحتشمة خطواتها المتزنة كلامها الهادئ المتواضع بسمتها الخافتة كان ما يميزها..
في جيبوتي تجد الكثير مثلها يطفن الأسواق العالمية.. مليون أنثى جيبوتية تستحق الاحترام ومثيلاتها كثير في جيبوتي..
كل يوم تهديني هذه المدينة العجيبة بعض من أسرارها وجمالها..
أنا لم أرى بعد الكثير..
لكن المرأة في جيبوتي امرأة استثنائية بكل المقاييس.
مصطفى الدكاك