كانت الساعة تشير إلى الرابعة وتسع وعشرين دقيقة فجراً حين قمت من النوم .. توجهت نحو الحنفية وعيناي نصف مغمضتان ... أتمايل يمينا وشمالاً.. إذ لمحت شيئاً يتحرك على الجدار .. تسمرت قدماي دون قصد وطار النوم من عيني بلا استئذان .. ياترى ما هو ذلك الشئ الذي لمحته ؟ هكذا قلت لنفسي . فالتفت إلى الجدار ولم تكن سوى حشرتان ذكرتا في القرأن لحكمة جليلة وهما نملة تحمل نحلة .. استوقفني المنظر ووقفت أراقبه .. نملة واحدة تحاول جاهدة حمل نحلة ! والأغرب أنها تريد أن تصل بها إلى جحر في أعلى الجدار !!
وتمر بضع دقائق لتنضم إلى مهمة الحمل نملتان لتزداد السرعة وتقطع النملات الثلاث في الارتفاع مسافة متر تقريبا.. ثم تقرر النملتان طلب النجدة لعل الدافع هو إنجاز المهمة في أسرع وقت ممكن .. والأمر المدهش هو أن النملة التي بقيت ظلت حاملة للنحلة وحدها حتى وصول العون والمدد .. قدرة عجيبة في قوة التحمل والصبر والإصرار وفي غمرة إعجابي عدت بالذكرة إلى الوراء .. إلى آيام الطفولة والبراءة إلى أيام كنا نتسابق ونتشوق لاستماع حواديت الأمهات وكانت من هذه الحواديت أنه في قديم الزمان كان هناك ولد بار بأبيه ، وشب الولد وهو يخدم أباه ليلا ونهاراً وفي يوم من الأيام ناد الأب إبنه وقال : يابني كنت دائماً باراً بي فأدعو الله أن يرزقك قوة النملة وذكاء المرأة !! فغضب الشاب غضباً شديداً وقرر ترك والده إلى بلد لا يعرفه وجمع قوته وخطى خطواته نحو المأمول .. وتغرب الشمس ويلوح الليل في الأفق وهو لا يزال في الطريق ..فقرر أن يحط رحاله في كوخ لمحه داخل مزرعة قريبة ليواصل مشواره في صباح اليوم التالي ثم اقترب من الباب ودقه طالبا من أهل البيت استضافته باعتباره عابر السبيل ، فرحب به صاحب الكوخ وأجلسه في ركن .. وبعد لحظات سأله الرجل عن أسمه وبلده ؟ وفي خضم التعارف والحديث حكي الشاب للرجل عن قصة سفره وسبب تركه لأبيه ، فقال الرجل للشاب أبق معي نهار غد وليلته ثم واصل طريقك إذا شئت ، فوافق الشاب باقتراح الرجل ويأتي الصباح ويخرج الشاب مع الرجل للمزرعة وإذا بالرجل يأخذه إلى تجمعات النمل ويقول له راقب هذا النمل ..وجلس الشاب يراقب النملة وما تحمله من الأحجام الكبيرة التي تساوى أضعاف أضعاف وزنها وحجمها !! ومحاولاتها المستميتة لتحقيق الهدف والأكثر من ذلك أن لديها قدرة التحمل ونظام معقد لتدبيرحياتها وإدارة شؤونها ، وفجأة ربت الرجل على كتف الشاب قائلا : هذه هي النملة في قوتها العجيبة ، يابني الحكمة في القدرة وليس في حجمها ، أما فيما يتعلق بذكاء المرأة فموعدنا على العشاء
طالباً منه أن يقرص يد زوجته عند تقديمها للعشاء ووافق الشاب على الطلب .. ويأتي المساء ومعه موعد العشاء .. وكالعادة قدمت الزوجة لزوجها وللضيف ما اعتبرته أحسن طبخ .. وتنفيذاً للطلب مد الشاب يده متظاهراً كأنه يحاول أخد الصحن منها وقرصها على يده ، فصرخت المرأة من الألم ، فقفز الزوج من مكانه سائلاً إياها عما حدث ، فردت بسرعة لقد كاد أن يقع مني الصحن وخرجت وقد أصابها ذهول مما فعله ذلك الضيف .
وعاد الرجل إلى مكانه وألتفت إلى الشاب وقال له هذا هو ذكاء المرأة ، لم ترد أن توقع بيننا لأن الضيف مكرم دائماً ، وسأله هل رأيت كيف أنقذت الموقف؟ فرد الشاب نعم ، ثم سأله الرجل : أما زال في نفسك شئ تجاه أبيك ؟ فرد الشاب لا أبداً وفي صباح اليوم التالي عاد الشاب إلى أبيه طالبا منه العفو والسماح .
ولهذا كان أحد أساتذتي في الابتدائية يوصينا بالتحلي بقوة الإرادة والإصرار والتحمل لنحقق النجاح،
وكذلك لما أودع الله في النملة من قدرة استوقفت كثير من العلماء وقادتهم إلى إجراء أبحاث ودراسات مدهشة حولها وحول حياتها اكتشفوا من خلالها حقائق مذهلة تسلط الضوء على نظام حياتها من نظام مرور منظم للغاية ..وأن لديها قرون استشعار وإرسال غاية في الدقة أذهل العلماء رغم التطور التكنولوجي .. وأن تحركها يمينا وشمالا يعود في ضعف بصرها بسبب قضاء معظم وقتها داخل جحر مظلم .. واكتشفوا أن لديها مستعمرات ومعلومات مهولة أخرى والملفت أن النمل يتراحم ويتعاطف بل ويضحون لبعضهم.
نبيهة عبدو فارح