عاش أهل السودان، شمالاً وجنوباً، كشعب واحد متعدد الثقافات والدين واللغة، ما يفوق المائة عام،، حدثت خلالها أحداث جسام ومخاضات عديدة ومتنوعة زادت بعضها هذا النسيج الفريد في العالم ترابطاً وقوة.. في حين دفعت بعض تلك المتغيرات بالقوميتين المكونتين لأمة السودان.. تباعداً..
ولكن في مجمل القول،، فإن المحصلة الكبرى للتفاعل المجتمعي الذي ساد قرابة قرن من الزمان قد تمخض عنه في النهاية ما يشبه الاندماج.. حيث ازدادت أعداد الجنوبيين المولودين في الشمال، والشماليين المولودين في الجنوب (مما يجعل كلا الإقليميين موطناً أصيلاً لكل من المجموعتين).. كما تزايدت نسب المصاهرة،، والأعمال التجارية والزراعية، ونشأت مجموعة سكانية جنوبية كبيرة في الشمال، ترتبط به من كل النواحي المؤهلة للمواطنة، وحدث الأمر نفسه لمجموعات شمالية عديدة في الجنوب... ومع تحسن سبل الاتصال والانتقال.. ازداد التلاحم.. وكان مجتمع جديد، أقوى وأغنى، في طريقه للبروز.. تعلم العديد من الجنوبيين اللغة العربية (ناهيك عن ازدياد انتشار الإسلام) وحدث احتكاك وتعارف وتبادل رؤى وتثاقف بين النخب الجنوبية والشمالية، ولا يمكن الاستهانة بهذه النقلة ودورها في تمتين النسيج الاجتماعي لأي دولة أو أمة.. ثم كانت الحرب..
وقاسى الناس ويلاتها على ضفتي الوطن الواحد.. وحين تقاطر أهل الجنوب على الملاجئ، هرباً من الحرب كان نصيب الشمال 70% من النازحين، في حين تفرق الباقون بين كل دول العالم، بما فيها منافى وملاجئ بعيدة (جداً) إضافة للملاجئ التقليدية القريبة.. وخلال هذه الحرب التي استمرت زمناً طويلاً، واللجوء المترتب عليها، تلمّس الجنوبيون فعلاً، أن شعب الشمال هو الأقرب إليهم وأنهم حيثما رحلوا، وجدوا فوارق، ولكن تلك التي وجدوها في الشمال كانت الأقل .. في كل شيء..
ثم كانت اتفاقية السلام الشامل.. تلك الاتفاقية التي أوقفت الحرب، نعم، ولكنها لم تؤطر لسلام دائم- كما حاول قاضيها أن يسوقها.. وذلك لعدة أسباب..
تمت الاتفاقية والنظام السياسي في شمال السودان في ضعف شديد، إذ أنه نظام أحادي، ذي قاعدة شعبية محدودة في بلد تعوّد الإجماع - أو شبه الإجماع - لموال مسيرته وقراراته التاريخية - كالاستقلال، والحكم الاتحادي، والديمقراطية إلخ....
ثانياً ازدياد الضغط الغربي على النظام بالعقوبات والمقاطعة والتهديد بأخطبوط الجنايات ولائحة الإرهاب.. إلخ..... إلخ ، مما جعل النظام يؤمل في فك ضوائق الشعب السوداني بالرضا باتفاق يحمل في طيّاته الكثير من الغموض... وحسن النوايا...
ثالثاً: كان النظام السوداني في أشد الحاجة- لإحداث اختراق في الجبهة الداخلية يفكك أسورة التحالف المعارض والتي أخذت في الاستقواء، والاستظلال بمظلة الموقف الدولي (الغربي) من السودان للدفع بالمزيد من المواجهات مع النظام، وتعقيد مسارات التفاوض العديدة والتي كانت بشرياتها تتزايد (الشرق ، دارفور، التجمع، أسمرا... إلخ...)
وليس أدل من فطنة النظام السوداني للمطبات العديدة في مشروع الاتفاق أكثر من تنحى (أوتنحية) رموز سياسية شهيرة من سدة المفاوضات، وتمنع الوفود السودانية المتعاقبة من التوقيع النهائي - مطالبين بفقرات وحواشي إضافية تزيد الطمأنينة - أو تجلى الغموض حول بعض البنود، مثل بند الاستفتاء، ومصير بعض المناطق، والحدود ... إلخ.. مما دفع بالقوة العظمى الداعمة للاتفاقية بالتلويح بالدعم المادي "الثقيل" للطرف الذي يوقع، ومعاقبة الطرف الذي لا يوقّع.. ومن الطرائف أن المبلغ (الربط) الذي لوح به "الراعي" كان مبلغ 200 مليون دولار.. وهو مبلغ كان السودان ينفقه خلال شهرين ثلاثة شهور فقط من الحرب التي استمرت قرابة العشرين عاما (آخذين في الاعتبار أن الحرب المعنية هي الحرب التي بدأت عام 1982 لأن الحرب السابقة (1955 - 1972) كانت قد طويت صفحتها تماماً باتفاق أديس أبابا المؤود).. وأقل ما يمكن قوله أن اتفاق السلام الشامل والذي وقع في ضاحية نيافاشا (وكر الشيطان بالسواحلية!) عام 2005، كان اتفاق ضرورة - من ناحية شمال السودان - ولم يكن اتفاق رضا .. فقد حقق الطرف الجنوبي كل ما كان يأمل فيه، وفوق المأمول، في حين تدنّى مكسب الشمال للحد الأدنى،، أملاً في مكاسب أخرى، على رأسها رفع العقوبات، وإعفاء الديون، والمساهمة في تمويل التنمية في الجنوب والشمال، مما يجعل الوحدة جاذبة، حيثما يجري الاستفتاء بعد 6 سنوات انتقالية.. ولكن أيّاً من ذلك لم يحدث،، ولم يحصل شمال السودان على شيء... وظل يطالب ويناشد ويتوسل.. ولا أحد يستجيب.. بل اتضح في نهاية - الأمر، أن ما يسمى بالمانحين، والمجتمع الدولي، وأصدقاء الأصدقاء.. لم يكن لهم سوى هدف واحد ألا وهو فصل جنوب السودان عن شماله... تاركين السودانيين شماليين وجنوبيين ليلاقوا مصيرهم الجديد، والأوضاع المعقدة التي زادتها الاتفاقية غموضاً بأنفسهم.. وخلف الابتسامات والاحتفالات والكوكتيل الزائف والدبلوماسية الدولية، كانت تكمن نوايا أقل ما توصف به أنها لم تكن تحمل ذرة من الاكتراث بالأوضاع الجديدة التي ستؤول إليها أحوال أهل جنوب السودان - قبل شماله - بعد الانفصال ... وواهم وهماً كبيراً وطفولياً من يظن أن للغرب نظرة رحمة أو أن ادعاء "الإنسانية" له حقيقة في حسابات الغرب.. فالغرب قارة جرداء قاسية الطقس وخالية تماماً من الموارد.. ويستمد بقاءه من التفوق العسكري وتفتيت الخصوم - بأية وسيلة... والسودان مارد كبير.. وقطر قارة.. وشعب مكافح ومتعلم ومدرب ومجرب، وفوق ذلك.. غير مستسلم للغرب.. ولا مؤمن بأطروحة - "الرجل الأبيض" .. فخلال ما يفوق الخمسين عاماً من الاستعمار البريطاني، لم يجد الانجليز من أهل السودان غير السخرية والازدراء والمقاومة.. بكل السبل.. على كل حال.. وقع الفأس الآن على الرأس.. ولكن على عكس ما يعتقد الكثيرون فإن هذا الوقع لن يكون أشد إيلاماً لأهل شمال السودان... ففي شمال السودان كل شيء يؤهل الإقليم للنهضة وكل ما هو مطلوب ترتيبات إدارية سياسية بحتة "لترتيب البيت" والتعايش بين الفئات السياسية المختلفة.. ولكن الجنوب يحتاج لكل شيء نعم.. في الجنوب موارد ضخمة.. ولكن أضعاف هذه الموارد في الكونغو.. وأنغولا.. وزمبابوي.. وغيرها من الدول الإفريقية.. فأين هي الآن من تحقيق أي تقدم؟
لقد كان من الأجدى والأفيد تعميق الحوار وتواصله بين الفرقاء الذين تم تجميعهم في نيافاشا.. لمدة أطول بهدف الخروج باتفاق أكثر متانة.. وأدق.. ولكن استعجال "المانحين" و"الراعين" لتحقيق نجاح - ربما لأهداف تتعلق بالأوضاع السياسية والانتخابية في بلدانهم. ترك الكثير من الأمور عالقة.. وعلى رأسها موضوع الحدود.. والمواطنة.. والموارد المشتركة.. لقد أخطأ الجميع - خاصة الجانب الشمالي (حكومة السودان). بالتقاضي عن القناعة التاريخية بأن حدود 1956 هي الحدود التي يجب أن يعترف بها،، لأنها حدود قديمة ومدروسة، ومتعارف عليها ومعترف بها من قبل الجميع.. كما أخطأ الجميع بتخصيص بروتوكول لأبيي دون سائر المناطق.. ولعل ذلك جاء استجابة وإرضاءً "لأبناء أبيي" في الحركة - والذين هم فعلاً مؤثرون.. ولكن هناك عشرات المناطق على طول الشريط الحدودي تشابه أوضاعها أوضاع أبيي.. الردوم، القيقر،، صفرة النحاس، وعشرات البليدات الصغيرة على امتداد نحو 2000 كلم..
مناطق عديدة يتلاحم فيها أهل شمال وجنوب السودان وظلوا كذلك زهاء القرن من الزمان.. فلماذا أبيي؟؟ لسبب بسيط هو أن الحركة الشعبية كانت على حافة انقسامات خطيرة بسبب أبيي..
إن هناك العديد من المواضيع الشائكة والتي لم يبت فيها اتفاق السلام الشامل: ما مصير الجنوبيين الذين يرغبون في البقاء في الشمال والشماليين الذين يرغبون في البقاء في الجنوب؟ أولئك الناس الذين ترتبط مصالحهم الاقتصادية بطرف ووجدانهم وأسرهم وإرثهم في طرف؟ أي من "الراعين" أو "المانحين" يضمين حسن معاملة هؤلاء.. وحقوقهم وممتلكاتهم.. من يضمين عدم تأثر حركة الرعاة والذين يتحتم عليهم الرحال والتواجد في أي من البلدين لفترة قد تطول حسب الأحوال المناخية المتقلبة عاماً إثر عام..
إن كل هذه قنابل موقوتة.. سوف تؤدي لنشوب حر جديدة، بل مستمرة؟ كما أن النزاعات القبلية في العديد من بؤر الشريط الحدودي - وداخل الجنوب - قد تنفجر وتتفاقم، خاصة إذا التحمت بأجندة سياسية إقليمية أو جوارية.. عندها قد يتحول الوضع بين البلدين الجديدين إلى رواندا أخرى .. وعندها سيندم الجميع.. إن الحل الوحيد لمشاكل السودان خاصة مسألة الجنوب/الشمال هو في نمط من الوحدة يضمين للمواطن - في الشمال والجنوب- خصوصيته وكرامته وحريته وحكمه الذاتي وفق صيغة فدرالية أو كونفدرالية - يستظل فيها الجميع بالعدل والمساواة - وينخرطون سوياً في تحقيق حلم هذه الأمة العريقة في النهضة والرقي..
إن العالم كله يسعى نحو التوحد وتجميع القوى لتحقيق مكاسب اقتصادية عظيمة لشعوبها.. فلماذا يمزّق السودان..؟ّ!
إن تمزيق السودان لن يوقف انتشار الإسلام ولا اللغة العربية ولن يكبت الروح الفوّارة التي يتجلى بها المواطن السوداني - شمالي وجنوبي.. ولكن هذا التمزيق سيزيد نقمة المواطن السوداني على الغرب.. وقد يحوّل الشعب السوداني إلى شعب "راديكالي" أو ثوري بعد أن كان شعباً صبوراً.. حمولاً.. متأملاً.. ومتألماً في صمت.

البروفسور/
بابكر عباس