نعم! ولاشك ولا جدال، ولا توقف ولا استيقاف! فقد سرق الإسلام، أو اختطف، أو نهب، كل سواء،، وخصوصاً في السودان،، حيث تمت تلك السرقة وذالكم الاختطاف أو النهب – كيف شئت بدقة متناهية وبتمام تام.
نشأت حركة إسلامية في العالم الإسلامي في أواسط القرن المنصرم وكانت تمثل أو تتمثل حركة جماهير الأمة الإسلامية بين المحيطين والتي رأت الخراب والبوار والخوف والانكسار إثر هزيمة الإمبراطورية العثمانية وتناثر أجزائها وموت أطرافها، واحتلال الاستعمار الأوروبي عروشها وما تبع ذلك من ازدراء للشعوب واحتقار للثقافة وقتل كل شيء.. المفكر، والمتعلم، والقائد المخلص، والشيخ الورع.. بل حكى كممت الأفواه... وأرسلت الأمة إلى أضابير الجهل والكبت... والفقر والعوز... تلفتت الأمة يمنة ويسرى... فارتد البصر كسيراً وامتلأت القلوب بالحزن،،، فقد رأت بوادر الاندثار وجحافل التفعيل تنقض على الشعوب واحداً إثر الآخر.. ولم تجد في أطروحات الزمان ومهما ابتكر المستعمرون من حوافز ومغريات ما يشفي الغليل.. فبدأت الصحوة.. وهي فجر الثورة.. وبشرياتها.. فكان الكواكبي.. والرافعي.. والمودودي.. ومحمد عبده ومالك بن نبي وسيد قطب وكثيرون لم يتمكنوا حتى من حمل نبضات أفكارهم للجماهير ولا أسماع أصواتهم خارج الأطر "القطرية" الضيقة..
واستجابت جموع الجماهير وفي طليعتها الشباب المثقف أو المتثقف.. والباحث دوماً عن الحداثة والتغيير.. وقود الثورات وحطبها.. ومسرجي نيرانها.. وأخذوا يتأملون ويتلمسون إمكانيات الخروج والإبحار من خلال ماضي الأمة وتراثها الثري والذي أذكت أوار ومضه تلك الكتابات والأطروحات "الإسلامية" الباكرة..
ونشأت حركة إسلامية تحريرية على قدم وساق مع نشؤ ونمو.. الحركة الوطنية في كل أرجاء العالم الإسلامي.. في الجزائر، وليبيا، ومصر، والشام، والعراق، والحجاز، والسودان، ونيجيريا، ومالي، والنيجر، والصومال... بل وحتى الحبشة (إرتريا بالتحديد)، علاوة على شبه قارة الهند (والتي كانت باكستان والبنغال جزءً منها).
وجدت الدعوة الاستنارية التحررية في الإرث الإسلامي ذخيرة جمة.. صور الجهاد والأثرة والتجرد والفدائية التي تتخذ من الإيمان والتوكل على الله زاداً ودفاعاً لارتياد المشاق والصبر على الصعاب.. إيماناً واحتساباً.. كما وجدت في الإرث الإسلامي "السياسي" قدوة لا مثيل لها.. عدل عمر وتجرد أبي بكر وسخاء بن عفان وفدائية (بل عبقرية) علي مروراً بعشرات، بل بمئات النماذج.. ابن حجر الكندي، والإمام بن حنبل وتلاميذه.. بن تميمة وصبره وحكمته وعلمه الباذج... فأخذت الجموع تتدارس هذه النماذج والعبر، وتملك القدوة التاريخية الراسخة في الثبات على الحق والانصياع لأوامر الخالق والانتهاء لنواهيه.. حتى عمت الدنيا في أوج الحقبة الإسلامية الخالصة أسمى آيات العدالة فانتشر الأمن والأمان ومحي الفقر حتى صار المنادي "حي على الزكاة" في شوارع القاهرة، لا يجد من يستجيب فلم يكن ثمة محتاج.. في بلاد لم يكتشف فيها النفط بعد ولم تتفتح الأذهان فيها على "السد العالي" أو ميزاب القلزم (قناة السويس) ولم ترهق ظهور فلاحيها وكادحيها بالضرائب... ثم جاءت حقبة ما بعد الاستعمار...
بعد أن ألهبت الجماهير وخوطبت وعُبئت الطاقات ومهرت الشعوب ولاءها للعهد الجديد بالدم، وخرج المستعمرون واحداً تلو الآخر.. نشب صراع عقيم وخبيث بين "الصفوة" المتعلمة حول السلطة.. وكثيراً جداً ما حمل السياسيون المدنيون إضغانهم.. أو خلافاتهم الداخلية.. إلى الثكنات وأوغروا أو حركوا كوادر عسكرية مؤدلجة "لتلقن الخصوم درساً" .. وحدث هذا في كل الانقلابات العسكرية التي اجتاحت العالم الثالث.. وعلى رأسه الدول الإسلامية (والعربية).. واتضح جلياً أن السياسيين (المدنيين) جميعهم يحملون أجندة انقلابية.. ولا يبالون بالانقلاب ولا بالانقلابيين إلا إذا كانوا ضدهم!! وبمعنى آخر.. فلم يكن دعاة الديمقراطية ديمقراطيين حقيقة.. بل تكتيكياً.. فإن جاءت بهم طوابير الجماهير المصفوفة حول بؤر الاقتراع فنعم وحسناً وإن جاءت بغيرهم فلا.. وألف لا.. مع إن ذلك الدرس البسيط هو ألف باء الديمقراطية.. وأول لبناتها.. بل هو حجر الأساس فيها ولا يقوم بنيان بلا أساس،،، فالديمقراطية هي تمرين أدلى حول الكسب والخسارة.. إذا كسبت الجولة تحسن الأداء في الحكم وإن خسرت الجولة تفسح المجال لمن كسب.. حتى الجولة التالية.. هكذا تنهض الشعوب.. يقوم أو يبعد المعوج ويرشح المفيد من ناس وأفكار وبرامج مع وجود الأجهزة المعروفة "بالترسانة الديمقراطية" متمثلة في البرلمان المنتخب، والأعلام الحر، والقضاء المستقل.. والشعب المنتظم بأطر سياسية...
وهنا قد يتساءل عاقل بحق: ما علاقة ذلك بالإسلام، وبالإسلاميين؟!
إن الحركات الإسلامية خاصة في السودان كانت واحداً" من أكبر معاول هدم الديمقراطية في عصرنا هذا. وكانت سبباً في إضعاف وإرباك الحكومات الشابة والتي كانت تنشأ دوماً وبتكرار إثر الهبات والثورات الشعبية أو حتى بعيد الاستقلال .. إذ كان هناك من سبقهم من " إسلاميين" أقدم من هذا المضمار (في السودان بالذات).
وقد اتبع "الإسلاميون" أسلوباً ماكراً في تنفيذ مخطط وأد الديمقراطية، يكاد يتكرر في كل البلدان.. ولكن (ثانية) أقصر تحليلي من السودان: وقد تمثلت إستراتيجية الحركة الإسلامية في وأد الديمقراطية في السودان في ثلاث محاور:
أولاً: على الصعيد الاجتماعي –النفسي – الدعوي – وذلك بوصم دعاة الديمقراطية والحداثة بالعلمانية، فيضعف بذلك الولاء لهم ولا أن يجعل طاعتهم ملزمة أو معاونتهم عمل خير..
ثانياً: الإيعاز بأن الديمقراطية نوع من البدعة، ومن نتاج المشروع الحضاري الغربي،، لأن المسلم أساساً "لا خيرة له في الأمر" وأن الشريعة جاهزة" وصالحة لكل زمان ومكان" وإن كل ما يفعله الداعون للديمقراطية في الحياة ما هو إلا تعطيل للمشروع الإسلامي بأسلمة الحياة.. مسيرة قاصدة لله، ليس للبشر فيها رأى أو قول أو جرح أو تعديل.
ثالثاً: التزلف للقيادات العسكرية – بشتى الطرق – ودس العناصر المؤدلجة في صفوف الجيش، والذي من المفترض (والواجب! أنه مؤسسة قومية محايدة إلا فيما يتصل بمهامها الدستورية "والتعاقدية" في الدفاع عن البلد بأسره من التهديد "العسكري" الأجنبي أو الداخلي.
لقد شهدنا في السودان أدلة على كل ذلك. والراصدون في البلاد الأخرى والتي كانت تجمعنا بها إمبراطورية واحدة يفيدون بذلك حول أقطارهم أيضاً.
رابعاً: "التركيز في الخطاب التعبوي على فئة الطلاب – خاصة في مداخل التعليم العالي – وذلك ليسر التأثير علبهم بالأطروحات الإسلامية التي تفوح نقاءً" وطهراً" ومن ثم استغلالهم في تحريك الشارع كلما حوصرت الحركة أو هزمت ديمقراطياً".
برفيسور
بابكر عباس محمد أحمد