في سبعينيات القرن الماضي كانت مقديشو منارة مشرقة تهدي الحيارى والتائهين وسط بيئة إفريقية بائسة تتخبط في واحة الجهل ولم تبصر بعدُ نور العلم والحرية منذ الاحتلال الغربي وكانت تلمع وسط مقديشو ناطحات السحاب ومصانع عملاقة وقصوراً فارهة كما كانت موطن المعرفة والتطور. ولكثرة من يخطب ودِها ولقلة حاجتها لكثيرين منهم لم تكن تكترث لحقد جيرانها الذين كانوا يحاولون اللحاق بها ولاسيما كانت لا تخشى أن تحاول جارتها أدس أبابا النيل منها' لكنها كانت تنظر إليها بعين الريبة . ثم لم تكن تشغل بالها بالمدينة نيروبي التي كانت بنظرتها أقل شأناً منها ' كما كانت تنظر لمدينة جيبوتي بعين الرحمة معتبرتاً إياها أختاً أصغر منها وحياً من أحياء مقديشو وكانت تخطط لتحريرها من الاحتلال الفرنسي.كما كان عرش زوجها محمد زياد بره مفروشاً بالورود ويتطلع إليه الجميع ويستقطب اهتمامهم . لكن ما لم تكن تعلمه مقديشو هو أن أبناءها سيوجهون إليها فوهات مدافع وينهبون كنوزها ويدمرون قصورها ' وأن أبناءها سيحاولون إطاحة والدهم ويتقاتلون من أجل تقاسم تركته ويتناحرون من أجل خطوبة أرملة والدهم ثم سيحولون الجود جحودا . الجدير بالإشارة أنه في عام 1991 حدث ما لم يكن بالحسبان ' انطلقت أول شرارة الحرب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس فتقاتل الجميع بلا هوادة ودمرت بيوت عن بكرة أبيها وعلى رؤوس أصحابها كما ارتكبت جرائم ضد الشعب الصومالي وقتل آلاف وشرد آلاف كما تناحرت القبائل من أجل هذه المدينة . و ما يزيد الطين بِلة أن عقدين من زمن أي ما يقارب عن 20 سنة والحرب لم تضع أوزارها ولم تؤتي أكل ثمارها. هذه الفترة قتل السواد الأعظم من سكان مقديشو' أطفالاً وشيوخاً ونساءاً وشباناً وربما حتى الجان . لكن ما يحزن قلب كل مسلم غيور وكل الإنسان يحمل في قلبه أدنى معاني الإنسانية ' أن العالم كله كان يتفرج ويغض البصر وكانت ترتكب هذه الجرائم البشعة في مرآى ومسمع العالم رغم استغاثة ملهوف الصومالي إلى المجتمع الدولي وإلى الأمم المتحدة والعالم الإسلامي والعربي لكن لا حياة لمن تنادي ' لأن الشعب الصومالي شعب مسلم وإفريقي فلو حلت هذه الكارثة على شعب مسيحي فإن الدنيا كلها ستقوم ولن تقعد أبداً . ناهيك عن تدخلات الخارجية التي ساعدت في تأجيج نيران الحرب ' إلا أن هناك دولاً صديقة للصومال حاولت حللة الموقف المتأزم أصلا للحيلولة دون مواصلة الحرب وتقريب وجهات النظر بين الإخوة الفرقاء ومن هذه الدول .النمر المتوتر من شأن الصومال (جيبوتي) التي كانت دائماً تحاول لَم الشمل البيت الصومالي وتوحيد الصف أبناء الجلدة المتناحرين ' وتدعو إلى تحكيم منطق العقل وتخلي منطق القوة ' وتخفيف وطأة الحرب عن الشعب المجروح .
فقد دعا رئيس جمهورية جيبوتي إسماعيل عمر جيله إلى مؤتمر المصالحة الصومالية في عرتا فور توليه رئاسة الجمهورية وبذلت جيبوتي جهوداً وأموالاً باهضة من أجل إنجاح المؤتمر وأثمر هذا المؤتمر وتشكلت فيه حكومة جديدة قائمة على مبدأ المصالحة الوطنية وباشرت مهامها ' إلا أن زعماء الحرب والإقطاعيون الذين لا يريدون للصومال خيراً أسقطوها ثم تشكلت الحكومة الانتقالية أخرى في كينيا على أنقاض حكومة عرتا' وقد دعم الرئيس / جيله الحكومة الجديدة مادياً ومعنوياً كما دعم في حكومة عرتا إلا أنها هي أيضاً واجهت صعوبات جمة ودخلت دوامة حروب مع محاكم الإسلامية كما دخلت إثيوبيا خط المواجهة وساندت الحكومة الانتقالية على حساب المحاكم الإسلامية التي كانت تحكم مقديشو آن ذاك وأجزاء واسعة من الصومال . ففي الصباح الرابع والعشرون من كانون أول (ديسمبر)2006 تصبح مقديشو في مرمى نيران قوات إثيوبية .
بعد أن نامت قريرة العين في ليلة هادئة على كنف المحاكم الإسلامية ' ولهدوءِ دام ستة شهور . إلا أن المحاكم الإسلامية لم تستطع الصمود أمام مطرقة (سناوي) وتنين (يوسفي) وفضلت الرحيل وانسحبت من مقديشو فيما واصلت قوات الحكومة الانتقالية والقوات الإثيوبية توغلها في عمق مقديشو ' وملاحقة فلول المحاكم،وسيطرت على مدينة مقديشو وضواحيها كما سيطرت على ميناء ومطار مقديشو إلا أن حكومة عبدا لله يوسف سقطت هي أيضاً وواجهت نفس مصير حكومة عبد القاسم صلاد بعد خلافات وصراعات داخلية وشخصية وشكلت على أنقاضها حكومة شريف شيخ أحمد واستعانت هي أيضاً لقوات إفريقية لبسط سيطرتها ولضمان وجودها، ولا يزال مسلسل العنف دائراً بينها وبين حركة الشباب (الفصيل المنشق من المحاكم ) والتي كانت إبان المحاكم في إمرة شيخ شريف وجناحاً مسلح للمحاكم والآن تحولت فجأة إلى عدو لذود .
أخيراً فإن المحاكم الإسلامية حاربت من أجل مقديشو وزعماء الحرب هم كذلك كما تقاتل الحكومة الانتقالية هي أيضاً وإثيوبيا سعت للهدف نفسه ولا تزال تسعى والقوات الإفريقية تقاتل من أجل سيطرة مقديشو وحركة الشباب تقاتل وتقدم قرابين من الانتحاريين من أجل مقديشو وجريمة النكراء في الأسبوع الماضي والانفجار الذي أودى بحياة مائة شخص من سكان مقديشو والذي كان يحمل بصمات حركة الشباب يشهد على أوضاع المأساوية في مقديشو ويثبت الصراع الدموي عليها، وكنا نأمل أن يمر عام 2011 بسلام ورخاء على شعب الصومالي وعلى عاصمة مجروحة مقديشو،لكن وللأسف هذا ما لم يحصل، ولا يزال الشعب الصومالي يموت من أجلها .
الجميع يضحي من أجل مقديشو والجميع ضد الجميع ومقديشو لا تزال تبكي دماً بدل الدموع ولا تعرف سبباً لهذا الكم الهائل من التضحيات ولهذا الاهتمام.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو،هل تغيرت نظرة مقديشو إلى نفسها واعتزازها وهي تحصي قتلاها وتدفن موتاها بعد أن دخل الموت في كل بيت ؟ بالطبع إن نظرة مقديشو إلى مثيلاتها وإلى عزة نفسها قد تغيرت إلى حد كبير بل إن الناظر الآن إلى واقع مقديشو سينقلب إليه بصره خاسئاً وهو حسير بل ورب الكعبة إن مقديشو ليست مقديشو التي نعرفها والتي كانت يوماً ما عاصمة لدولة الصومال فالمدينة تحولت إلى مدينة أشباح لا توجد فيها أدنى مقومات الحياة حتى أمنها مفقود.
وقد أعادها أهلها إلى العصور الحجرية وأحالوها إلى ركام فوقه رماد وتراب. لكن يا تُرى فهل هناك بصيص من الأمل لنهوضها مرة أخرى؟ وهل هناك أمل من أن يعم السلام ربوع الصومال ؟ هذا ما ستكشفه لنا الأيام وتخبئه عنا الأقدار.
عبدالرزاق عمر جيلدون
خريج من جامعة عدن كلية الصحافة والإعلام