في زحمة الحياة.. وحينما تحل ساعة الذروة كل يوم معلنة انتهاء الدوام الصباحي في المدارس ومواقع العمل والدوائر الحكومية، ليعود الطلبة والموظفون والعمال بعد أن قضوا من دوامهم اليومي ما قضوه إلى منازلهم، وبعد أن ينتهي الآخرون من قضاء حاجياتهم المعيشية اللامنتهية من أسواق المدينة يسارع كل هؤلاء الخطى في طريق عودتهم كل إلى منزله نحو مركز المدينة، حيث ساحة "محمود حربي" محطة التجمع لحافلات النقل الجماعي الصغيرة منها والكبيرة، لتكتظ بهم تلك الساحة ولتتحول في ساعة الذروة تلك إلى مسرح بانورامي حي يعج بحركة تنقلات المجتمع وأنشطته التجارية اليومية.
فما إن تتجاوز راجلاً مسجد حامودي عن يمينه قدمت أو عن يساره وبمجرد أن تصل بذلك إلى تلك الساحة التي اعتاد الناس تسميتها بــ "بلاس رامبو" حتى تصبح جزءً من تلك البانوراما اليومية الصاخبة وتفصيلاً صغيراً من تفاصيلها الروتينية الكثيرة، حيث باعة العطور المتجولون الذين قد يكرموك أحياناً بزخة أو زختين من تلك العطور علك تبتاع إحداها منهم، مروراً بباعة العصائر الطازجة وغيرهم من الباعة المتمركزين في جنبات تلك الساحة بكاريوناتهم المليئة بالبضائع الصغيرة التي يتكسبون ببيعها لقمة العيش الضنينة تحت شمس الظهيرة اللافحة، لكن من يلعب الدور المحوري على ذلك المسرح المفتوح والنابض بالحياة هم أصحاب حافلات النقل الجماعي "الباص والميني باص" من السائقين ومساعديهم "الكريشبويات" ومن ينوب عنهم في ملء تلك الحافلات بالركاب..فما إن تطأ قدمك تلك الساحة حتى تصل إلى مسامعك أصواتهم المتداخلة وما إن تميز منها الصوت الذي يهتف بالوجهة التي تنشدها فتمضي إليه مسرعاً حتى تقطع عليك الطريق حافلة أخرى ما إن تتفادى بالكاد دهسها لك حتى يخرج عليك من وسط الزحام "كريشبوي آخر" فجأة ساحباً يدك في رعونة لا يمكن لك إلا التغاضي عنها عارضاً عليك - في إغراء لا يخلو من بعض النذالة البريئة - سرعة الانطلاق بك مقابل أن تملأ له الكرسي الشاغر الأخير الذي قد لا يكون بالضرورة معظم الأحيان كرسياً بل إنما لوحاً صغيراً مبتكراً يوضع لك ما بين الكراسي الأساسية للميني باص!
وما إن تبدي قبولك بذلك العرض السخي !! الذي تحشر فيه كقطعة لحم في ساندوتش متفهماً لحرصهم على ملء الحافلة بأكبر عدد من الركاب!! وما أن تصعد بإحدى قدميك نحو الداخل وقبل أن تلحق بها الأخرى، حتى يبدي أحد الركاب في الخلفية عن رفضه واستنكاره وإدانته الشديدة لذلك الحشر المنهج ليحتدم بذلك جدال كبير ينقسم معه الركاب إلى أغلبية معارضة لذلك الحشر وأخرى متفهمة له ولدوافعه.. لتقف بين ذلك حائراً منحرجاً من تسببك في ذلك الجدل، ولرفض بعض الركاب الإفساح لك كي تتمكن من الجلوس.. لنقرر وسط تلك المعمعة النزول من تلك الحافلة اللعينة، والدخول مجدداً في دوامة البحث وسط الزحام عن حافلة أخرى تقلك إلى وجهتك!!.
محمد إبراهيم حجازي