لا شك أن النسيان فطري في الإنسان وما سمي الإنسان إلا لنسيانه وهو يختلف عادة من شخص لآخر فيكثر ويقل بحسب ما فاوت الله بين العباد في قوة الذاكرة.
والقرآن الكريم يتفلت من الصدور إذا لم يبادر المسلم إلى المراجعة الدائمة والتعاهد المستمر لما يحفظه ولعل في ذلك حكما منها الابتلاء والامتحان لقلوب العباد لكي يتميز الفرق بين القلب المتعلق بالقرآن المواظب على تلاوته والقلب الذي تعلق به وقت الحفظ ثم فترت همته وانصرف عنه حتى نسيه.
ولعل من الحكم أيضا تقوية دافع المسلم إلى الإكثار من تلاوة القرآن الكريم لينال الأجر الكبير بكل حرف يتلوه ،ولو أنه حفظ فلم ينس لما احتاج إلى كثرة التلاوة فيفوت عليه أجر المراجعة والتعاهد فخشية النسيان تدفعك إلى الحرص على التلاوة ليزيد أجرك عند ربك ولك بحرف تتلوه حسنة والحسنة بعشر أمثالها .
المصطفى صلى الله عليه وسلم خير نموذج في التعاهد بالقرآن:
كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجا يحتذى به في التعاهد بحفظ القرآن الكريم والعمل به وترجمة تعاليمه السامية في الواقع المعاش حتى قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (كان خلقه القرآن) وربى صحابته الكرام على ذلك وتنافسوا وتسابقوا عليه حتى ظهر منهم ممن أتقن حفظ القرآن الكريم والعمل به كان منهم عبد الله بن مسعود الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه ( من أراد أن يقرأ القرآن طر يا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم معبد) وهو الذي طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن وكان منهم أيضا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الملقب بترجمان القرآن من أعلم الصحابة بتفسير القرآن الكريم ومعانيه، وهكذا صنع النبي صلى الله عليه وسلم جيلا يتعاهد بالقرآن الكريم حفظا ومعنا وعملا به ونشره وهكذا بقي الأمر في القرون المفضلة حتى فترت العزائم وضعفت الهمم وقل التعاهد به مما انعكس سلبا على الأمة.
ومن تعاهده صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ القرآن مخافة أن ينساه وكان إذا نزل عليه جبريل بالوحي يحرك شفتيه ويتكلم بأول الآيات قبل أن يفرغ جبريل آخرها حتى نزل عليه قوله تعالى ( لا تحرك لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه) * فإذا قرأناه فتبع قرآنه ).
وقد أخرج الإمام الترمذي حديثا يفسر هذه الآيات قال:عن ابن عباس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه فأنزل الله تبارك وتعالى ( لا تحرك به لسانك لتعجل به) قال أبو عيسى حديث حسن صحيح (3329).
وأخرج مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه فقال لي ابن عباس وأنا أحركها كما كان رسول الله يحركهما ،فحرك شفتيه ، وأنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل(لا تحرك به لسانك لتعجل به) * (إن علينا جمعه وقرآنه) قال:جمعه له في صدرك وتقرأه: (فإذا قرأناه فتبع قرآنه) قال: فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه) ثم إن علينا أن تقرأه ؛ فكان رسول الله صلى الله عليه بعد إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه كما أقرأه . أخرجه مسلم برقم 448 وأخرجه البخاري أيضا في كتاب الوحي برقم5.
ونظير هذه الآية قوله تعالى ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه )
كل هذه النصوص تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم بحفظ القرآن وتكرير قراءته حتى لا ينفلت عنه حفظه ويضيع ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينزل عليه الوحي يتعاهده بهكذا فجدير على حفاظ كتاب الله أن يقتدوا به صلى الله عليه وسلم ويتعاهدوا بحفظه ومراجعته، ويتأكد التعاهد في هذا الوقت الذي كثرت فيه الملهيات والمعرضات والأشغال التي تشغل عن حفظ القرآن الكريم ومراجعته.
الرسول الكريم يدعو إلى التعاهد بالقرآن:
-روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسك وإن أطلقها ذهبت) البخاري 5031
والمعروف أن الإبل إذا ذهبت وتفلتت من صاحبها لا يقدر على الإمساك عليها إلا بعد تعب ومشقة فكذلك صاحب القرآن إن لم يتعاهد حفظه بالتكرار والمراجعة انفلت منه واحتاج إلى مشقة كبيرة لاسترجاعه .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/79) في شرحه لهذا الحديث: مادام التعاهد موجود فالحفظ موجود كما أن البعير مادام مشدودا بالعقال فهو محفوظ ،وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورا ، وفي تحصيلها بعد نفورها صعوبة .
- روى مسلم في صحيحه رقم (790) عي أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها .
وروى البخاري رحمه الله عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال البني صلى الله عليه وسلم: (بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل نسي واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم) وفي رواية عن أبي موسى عن النبي (تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها) .
صحيح البخاري 5032. وذكر الرجال لا مفهوم له في الحديث والنساء يدخلن فيه وإنما ذكر الرجال من باب التغليب ، والنعم يطلق على الغنم والبقر والإبل والمقصود منها في هنا الإبل لأنها هي تعقل كما ورد في الحديث الذي أخرجه مسلم مقيدا النعم بالعقل هكذا (لهو أشد تفصيا من النعم بعقلها) صحيح مسلم رقم 790.
قال الحافظ في الفتح (9/81) قال ابن بطال هذا حديث يوافق الآيتين : قوله تعالى ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) وقوله تعالى( ولقد يسرنا القرآن للذكر).
فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له ، ومن أعرض عنه تفلت منه .
وفي هذا حض على دوام مراجعة الحفظ وتكرار التلاوة خشية النسيان وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المثل لأنه أقرب في توضيح المقصود، كما أكد ذلك بالقسم (فو الذي نفس محمد بيده) تأكيدا على تعاهد القرآن ومراجعة الحفظ.
أسباب تعين على إتقان حفظ القرآن والتعاهد به:
اعلم أخي الحافظ أن تثبيت المحفوظ وإتقان الحفظ له أسباب لا بد من تعاطيها ليرسخ محفوظك من القرآن الكريم في قلبك فتستطيع استدعاءه متى احتجت إلى ذلك ،ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:
1- تعاهد القرآن الكريم والإكثار من مراجعته كما ذكرنا آنفا في الأحاديث المتقدمة فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من الإبل في عقلها.
2- عرض القرآن على الحافظين الإثبات ومدارسته مع من هو أتقن منك وأشد استحضارا لأن في ذلك عونا لك على تحقيق مقصودك.
3- الإخلاص لله تعالى والاجتهاد في الدعاء على أن يثبت الله القرآن الكريم في قلبك.
4-فعل الطاعات ومجانبة المعاصي لأن المعاصي والذنوب تحول بين العبد وبين ما ينفعه من العلم، ولأنها ظلمة والقرآن نور، والظلمة والنور على يجتمعان في قلب العبد .
5-تعليم القرآن وتحفيظه لأن الاشتغال به من أعظم ما يستعان به على تثبيت المحفوظ ،فضلا عما فيه من الفضل العظيم.
6-الاقتداء بالسلف الصالح الذين كانوا يهتمون بتلاوة القرآن الكريم والعمل به ابتغاء الثواب الجزيل من الله العلي القدير ،وكان ممن كانوا يجتهدون بالقرآن الكريم التابعي الجليل سعيد بن جبير ذكر حماد:أن سعيد بن جبير قرأ القرآن في ركعة في الكعبة وقرأ في الركعة الثانية قل الله أحد وقال يزيد بن هارون : وأنبأنا عبد المالك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين. صفة الصفوة لأبي الفرج ابن الجوزي (2/49ـ50)
محمود أحمد أبسيه
رئيس هيئة علوم القرآن والسنة بالمجلس الأعلى الإسلامي