إن حبَّ الوطنِ .. والحنين إليه فطرةٌ إنسانيةٌ تسكنُ كل نفسٍ سويةٍ . ولا يظن ظان أن حب الوطنِ تهويماتِ شعراء، وتنميقاتِ بلغاء .. بل هو أصلٌ شرعيٌّ مكين .. والدلائلُ على مشروعية حب الوطن كثيرةٌ جداً . منها تعلُّقُه صلى الله عليه وسلم بمكةَ .. وحبُّهُ لها .. وقد تجلى هذا الحبُّ في مواقف كثيرة ..تجلى عندما ذهب نبينا صلى الله عليه وسلم مع خديجة إلى ورقة بن نوفل ، فقال له ورقة : ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودي .. فلم يحرك النبيّ صلى الله عليه وسلم ساكناً ، فلما قال له : ياليتني فيها جذعٌ إذ يُخرجك قومك ..اضطرب صلى الله عليه وسلم وقال : أو مخرجيّ هم ؟! قال السهيلي : يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فالنبي (ص) سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك ، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك لحب الوطن وإلفه فقال أو مخرجي هم . فتح الباري 12316 . وظهر شوقه صلى الله عليه وسلم إلى مكة .. فيما أخرجه بن أبي حاتم عن الضحاك قال : " لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه القرآن ( لرادك إلى معاد) إلى مكة " . وظهر شوقه صلى الله عليه وسلم إلى مكة حين فارقها مهاجراً فقال مستعبراً : لولا أن قومي أخرجوني ما خرجت. ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وصارت وطناً له وللدعوةِ صار يحنُّ إليها كما يحنُّ إلى مكةَ ، روى البخاريُّ في صحيحه عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَر فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَات الْمَدِينَة أَوْضَع نَاقَته ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّة حَرَّكَهَا مِنْ حُبّهَا[ البخاري ] قال ابن حجر : وَفِي الْحَدِيث دَلَالَة عَلَى فَضْل الْمَدِينَة ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّة حُبّ الْوَطَن وَالْحَنِين إِلَيْهِ. وثمت شواهدُ أخر في الحديث النبويّ على مشروعية حب الوطن والشوق إليه .. منها ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم إذا رقى جريحاً ، فقد كان يلعق أصبعه صلى الله عليه وسلم ثم يمسح بها تراب الأرض ثم يضعها على الجرح ويقول: باسم الله تربةُ أرضنا بريق بعضنا يشفى سقيمنا أو يشفي سقيمنا بإذن ربنا . لماذا كان يضعها على تراب الأرض ؟ اسمعوا كلام البيضاوي : إنّ تُرَاب الْوَطَن لَهُ تَأْثِير فِي حِفْظ الْمِزَاج وَدَفْع الضَّرَر ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَسْتَصْحِب تُرَاب أَرْضه إِنْ عَجَزَ عَنْ اِسْتِصْحَاب مَائِهَا ، حَتَّى إِذَا وَرَدَ الْمِيَاه الْمُخْتَلِفَة جَعَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي سِقَائِهِ لِيَأْمَن مَضَرَّة ذَلِكَ ! وانظروا بعد هذا إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قضى أحدكم حجة فليعجل الرجوع إلى أهله فإنه أعظم لأجره ) وقد نص العلامة المناوي على أن المراد بـ ( أهله ) وطنه وإن لم يكن له فيه أهل ! لما في الرجوع إلى الوطن من لقاء الأحبة وإدخال السرور عليهم . ولا ريبَ أننا إذا استحضرنا كل هذه المعاني لم نتعجّب من جمع الله تعالى بين ( القتل ) و ( مفارقة الأوطان ) في قوله : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلاً منهم ) . إن ما ذُكر وتُقرر سلفا بالعقل والعاطفةً وهو حقيقةٌ إنسانيةٌ راسخة على مرِّ العصورِ .. ولكن ثمتَ أسئلةً قد تردُ في أذهان بعض القراء الكرام ... أولها ما مناسبة هذا المقال ؟ وهل هو من تداعيات الاحتفاء بيوم الاستقلال الوطني ؟ ثم أليس الاحتفاء بيوم الاستقلال الوطنيِّ بدعةً منكرة !! وثمت سؤال ثانٍ لابد أنه خطر للبعض على الأقل .. ما الوطن ؟
أهو بلدُ الميلاد ؟ أم البلد الذي يحمل الإنسان جنسيته ؟ أم البلد الذي عاشَ فيه الإنسان عمرَهُ أو أكثر عمرِهِ ؟ أهو تلك البقعة الضيقة التي ينتمي إليها ؟ أم هو الكيان السياسيّ الذي ترسمه الحدودُ الدولية ؟ للإجابة عن هذه الأسئلة انتظروا المقال القادم بعنوان : أما بعد .
ــ بإذن الله ــ .
شاذلي الحـنكي