هل الاحتفاء أو الاحتفال بيوم الاستقلال الوطنيِّ بدعةً منكرة ؟ ! فللنظر والاستيعاب والإنصافِ أنقل لكم فتويين متعلقتين بالمسألةِ تبين كل منهما وجهةً من النظرِ ، وكلاهما لعالمٍ كريمٍ ، وإمام جليل.قال سماحة الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله : " ويلتحق بهذا التخصيص والابتداع ما يفعله كثير من الناس من الاحتفال بالموالد وذكرى استقلال البلاد أو الاعتلاء على عرش الملك وأشباه ذلك فإن هذه كلها من المحدثات التي قلد فيها كثير من المسلمين غيرهم من أعداء الله وغفلوا عما جاء به الشرع المطهر من التحذير من ذلك والنهي عنه وهذا مصداق الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن " ، وفي لفظ آخر: " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، قالوا : يا رسول الله فارس والروم ؟ قال : فمن ؟ " ".
وفي الجهة الأخـرى يقول الشيخ العلامة عبد الله بن بيّه حفظه الله : " اليوم الوطني ليس عيداً، والأعياد التي لا يجوز إحداثها هي الأعياد الدينية وليست التجمعات التي يتجمع الناس بها لسبب أو لآخر، قد يحتفلون بالزواج وقد يحتفلون بالولادة، وقد يحتفلون بأي شيء فهذا ليس من الأعياد الدينية، لهذا يجب أن نزيل هذا الوهم، وهذه الشبهة التي يتعلق بها كثير من الناس، فيدخلون على الناس حرجاً وشغباً في دينهم، بحيث يصبح المتدين أو الملتزم في حرج يشعر وكأنه يأتي كبيرة ويأتي منكراً، هذا ليس بمنكر، فالأصل في الأشياء الإباحة ــ إلى أن أشار بقوله ــ لا مانع أن يحتفل الناس أو يفرحوا بحدث زوال الاستعمار في بلد مثلاً ، هذا ما يسمى باليوم الوطني غالباً عندنا في أفريقيا، أو في البلاد التي كانت مستعمرة، فالأمر إن شاء الله لا حرج فيه، والتشبث بحديث أنّ الله أبدلنا عيدين في غير محله ؛ لأنّ الأعياد المقصودة في الحديث كانت أعياد جاهلية وأصنام، فالنبي - صلى الله عليه وسلم- ذكر أن أعياد الإسلام الدينية عيدان عيد الفطر وعيد الأضحى، وهذا لا يفهم منه أنه يمنع أن يتجمع الناس في تجمع ــ انتهى كلام الشيخ بن بيّه ــ
فالمسألة كما ترى ويتبين لنا تشملها سعة النظر الفقهي . أما بعد : ما الوطن ؟ أهو بلدُ الميلاد ؟ أم البلد الذي يحمل الإنسان جنسيته ؟ أم البلد الذي عاشَ فيه الإنسان عمرَهُ أو أكثر عمرِهِ ؟ أهو تلك البقعة الضيقة التي ينتمي إليها ؟ أم هو الكيان السياسيّ الذي ترسمه الحدودُ الدولية ؟ الذي أختاره أن ذلك كله ( وطنٌ للإنسان ) .. فالبلادُ التي ترجع إليها أصول الإنسانِ هي وطنٌ له ولآبائه ولأجداده بلا ريب . والبلاد التي وُلد أو أقام فيها زمنا طويلاً حتى عرف بها وعرفت به هي أيضاً وطنٌ له ...
وشاهدُنا على ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقد أحبّ مكة لأنها مولدُهُ .. وأحبَّ المدينة لأنها مهجرُه ومسكنُهُ ومقامُهُ .. وكانت كلتاهما له وطناً .. يحنّ إلى الأولى ويشتاق إلى الثانية. صلى الله عليه وسلم . ولا تعارض في ذلك ولا تضاربَ .
ولكن يبقى سؤال ثالثٌ مهم جداً ... ما مقياس الوطنية الحقة ؟ إن أول معالم الوطنية الصادقة أن يحافظ الإنسان على وطنه من وبال المنكراتِ، لقد أخبرنا القرآن الكريم أن المعصية والكفر سبب خراب الأوطان : ((لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة وربٌ غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيءٍ من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور)). فكيف بالله عليكم يكونُ ( وطنيا ) من يحب أن تشيع الفاحشة والفساد ؟ وكيف يكون ( وطنيا ) من يريد أن يغير وجه هذه البلاد السنيّ الأبيض الطيب الجميل أو يسعى لأن تكون بلاداً متحررةً من كل عُرف وشرع ! .. إن من معالم الوطنية الصادقة كما فهمتها ..
أن يسدّ الإنسان بأمانةٍ ثغره الذي هو عليه. فكل منا على ثغر .. كل من ولي مهمةً أو تولى عملاً مهما كان حجمه صغيرا أو كبيرا فهو على ثغرةٍ وطنية .. وقيامُهُ بمقتضى هذا العمل أو هذه الوظيفةِ هو من تمام وطنيتهِ وصدقِ انتمائِهِ . ومن معالم الوطنية الصادقة .. أن يحرص الإنسان على وحدةِ هذه البلاد وتماسكها وانتظام أمرها .. وأن يتجنب كل ما يؤديها أو يظهر الفتن فيها أو يخل بأمنِها .. وأن يكف العنصريات النتنة ودعوات الفرقة البغيضةِ فيها.. فذلك كله من تمام الوطنية الحقة .. التي يجب علينا بحق أن نعيشها وأن نتمسك بها .
شاذلي الحنكي