كان نور شاباً دائم الفرح والمرح لا تفارق البسمة شفتاه ويظهر الحبور الدائم في محياه، كان وجهه دائماً يضيء وربما من هنا استوحت أمه اسمه حين سمته نور رغم سواد بشرته الواضح، ومع أنه تربيى يتيم الأبوين بعد أن فقد والديه وهو في العاشرة من عمره وفي عام واحد إلا أن ذلك لم يعكر عليه صفو حياته ولم يمنعه من مواصلة تعليمه حتى الجامعة، وأذكر أنه قال لي يوماً بأنه حول نقمة فقدان والديه إلى نعمة حيث تعلم منها الاستقلالية والجرأة في اتخاذ القرارات المصيرية والاعتماد على الذات بعد الله في حل المشاكل التي تعترض سبيله، واسترسل في حديثه قائلا: أنه تحمل مسئولية تعليمه بنفسه في عمر مبكر، كما رفض نصيحة عمه بالالتحاق بمعهد تكوين المعلمين في التعليم الابتدائي بعد أن أكمل المرحلة الثانوية وحصل على منحة حكومية إلى الخارج حين قرر السفر ومواصلة دراسته الجامعية على عكس رغبة عمه الذي كان مصراً على أن يبحث عن أي عمل.
اتصلت بزميلي نور بعد انقطع مني تواصله الذي كان في الغالب من طرفه رن التلفون ولكن بدون رد، عاودت الاتصال به ولكن ما من جواب، فقررت زيارته حتى أقف على حقيقة ما جرى له، ذهبت إلى بيته فلم أجده وأخبرني أهله بأنه خرج للتو من البيت وتوجه نحو الساحل كعادته كل يوم منذ ما يقارب الشهر وأن حاله تغير وأنه أصبح دائم الصمت والتفكير ولا نعرف ما حل به وإن استفسرناه عن الأمر لا يبوح لنا بشيء من أمره ولا يجيبنا إلا بقوله :على أحسن ما يرام ولا توجد مشكلة.
خرج معي أخوه الأصغر ليدلني على مكان وجوده رأيته من بعيد جالساً على حجر مطل على البحر فأشرت لأخيه بأن يرجع.
فرأيت مظهره يحكي عن حاله رأيته واضعاً يده على خده مصوباً عينيه نحو البحر مستغرقاً في تفكير عميق، سلمت عليه فرد عليّ التحية ببرودوبصوت خافت.
رأيت نوراً غير الذي كنت أعرفه حيث اختفت تلك الابتسامة الجميلة وتحولت عيناه اللامعتان إلى جمرة من شدة الحمرة واستحال وجهه المضيء إلى كتلة من الرماد.
سألته عن حاله وما دهاه، سكت برهة ثم أخذ نفساً عميقاً وقال: إنه أمر إحدى بنات آدم وقعت في حبها وأعاني من ويلاته.
فاجأني جوابه فقلت في نفسي سبحان مغير الأحوال أليس هذا نور الذي كلما حدّثه عن بنت لطالما قال لي:
دعنا من حديث وحكايات البنات.
وما حام حول حمى الحسنوات.
وحدّثنا عن العلوم وجديد المعلومات.
فلكل مقام مقال ولكل زمان واجبات.
قلت له ثم ماذا ألم تفاتحها الموضوع؟
قال: فاتحتها به ولكنها رفضته جملة وتفصيلاً متعذرة بأنها ليست الآن مستعدة للارتباط بأحد ومنذ ذلك الحين انهارت أعصابي وساءت حالتي وفقدت التركيز على كل شيء ولا تمر عليّ ثانية لا أفكر فيها، أعكف على كتابة رسائل انتقي لها أرق المفردات وأجمل الكلمات وألطف العبارات وأرسل إليها ثم لا أجد منها جواباً وإن وجدت ليس بالذي يثلج صدري المكلوم ويسكن من آلام قلبي المجروح.
وأرفع سماعة الهاتف ولاتصال بها فلا أجد منها إلا كلمات من قبيل أعذرني، سامحني، لا أستطيع......
وأحدثها عن حالي فلا أحصل منها حتى على كلمة مواساة ثم نزلت من عينيه دمعتان وكانت هذه أول مرة أرى عيناه تدمعان منذ معرفتي به التي دامت خمسة عشر سنة.
قلت له رفقاً بنفسك يا نور أنت صاحب دين وخلق وموظف بوظيفة حكومية مرموقة وتتمناك كل الحسنوات.
قال لن أرضى منهن بغير أمل رغم ما أصابني بسببها من معاناة وما ألم بي من ألم لم أفقد بعد فيها الأمل، فهي الوحيدة التي سكنت قلبي وملأت عينيّ وارتاحت لها نفسي، لم أر لها مثيلاً في الدين والخلق ولم أعثر على مثلها في الجمال، ليس لدي خيار غير أن أصبر عليها وألتمس لها العذر باستمرار وسأظل أطرق بابها بإصرار فقد يلين الله لي قلبها كما ألان لداوود الحديد.
تركته على حاله بعد أن دعوت الله له ولمن على شاكلته من أبناء آدم وبنات حواء بأن يحسن حاله ويحول عسره يسراً.
برخد عبدي جيدي