والعدلُ مقصودٌ إلهيٌّ في هذه الأرض، بل في الكون كله : (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) وتأمّل هذه التوجيهات الربانية : (وإذا قلتم فاعدلوا)، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) بل إن القرآن يأمرنا بالعدل حتى مع المخالف الكافرِ : ( لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقد قال ابن جرير : نزلت هذه الآية في اليهود حين ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعينهم في ديةٍ فهموا بقتله .. الى آخر القصة . وقد رأينا في صنيع الأئمة الإعلام إنصافاً عجيباً حتى مع المخالف المبتدعِ الزائغ عن هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم . ودونك هذا النصَّ اللطيف لابن تيمية : " ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطناً وظاهراً، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون فيه عدوان وظلم يكون به فاسقاً عاصياً، وقد يكون مخطئا متأولاً مغفوراً له خطأه، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه ولاية من الله بقدر إيمانه وتقواه" [المجموع 3/353 ]. فتأمَّل هذا الفقه اللطيف : (وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه ولاية من الله بقدر إيمانه وتقواه) فلم ينف عنه ولاية الله مع وقوعه في بدعةٍ، ذلك إذا كان صادق الإيمان باطناً وظاهراً وإنما زلَّ. وكان هؤلاء الأعلام إذا وقفوا على صاحب زلةٍ أو بدعةٍ وقد كان له قدم صدقٍ في الإسلام لم ينكروا جهده، ولم يصوروه مارقاً فاجراً مخالفاً باغياً بالدين وأهله السوء . بل كانوا يدفعون العبارات الجارحة عنهم. وقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ما ذكره أبو أمامة المالكي عن أبي ذر الهروي، حيث قال أبو أمامة : " لعن الله أبا ذر الهرويّ، فإنه أول من حمل الكلام إلى الحرم، وأول من بثه في المغاربة "، حين نقل شيخ الإسلام هذه العبارة قال: " أبو ذر الهروي فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروفٌ به". [درء التعارض]. ثم قال عن أبي ذر الهروي وغيره ممن خاض في الكلام : " ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بصدق وعدل وإنصاف " [الدرء] . وللذهبي رحمه الله كلمة ذهبية قالها في ترجمته لشيخ المفسرين قتادة بن دعامة السدوسي ، وكان رحمه الله يقول بالقَدَر، وهي بدعة قبيحة، قال الذهبي: " ومع هذا ما توقف أحدٌ في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعةٍ يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه". [السير] . ومن تمام هذا العدل والإنصاف أن ندرك أن الشخص الواحد قد يجتمع فيه الإيمان والنفاق، والخطأ والصواب، فلا يُذْهِبُ شيءٌ شيئاً، قال شيخ الإسلام : " ليس كل من دخل عليه شعبةٌ من شعب النفاقِ والزندقة فقبلها جهلاً أو ظلماً يكون كافراً أو منافقاً في الباطن، بل قد يكون معه من الإيمان بالله ورسوله ما يجزيه الله عليه، ولا يظلم ربك أحداً". [ الدرء ] . ويقول أيضا : " إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد من موجبات الإكرام والإهانة ... فيجتمع له من هذا وهذا" [المجموع] وخلاصة كل ما سبق.. أنَّ العدل والإنصاف مع القريب والبعيد مطلوبٌ. فكم من أناس لهم أيادٍ بيضاءُ في خدمة هذا الدين، وتاريخ ناصعٌ، وعطاءٌ قديم وحديث، سهُل على بعض الناس (شطبهم) من الوجود الإسلاميِّ بسبب موقفهم في مسألة، أو اجتهادهم في عمل، أو حتى أعمال!
وكم من رجال تُعرف صلاتهم وصيامهم، ويُصرحون بإيمانهم بمرجعية الشرعية، بل لهم تخصص في فنونها وعلومها، وذودٌ عن حياضها، كم من هؤلاء نُسِخوا بالكلية لأجل اجتهاد منهم في مسألةٍ لعلهم لم يوافقوا فيها الصواب!
أو تحمّسوا فيها لما ظنوه حقاً! وكم من أناس صدرت بحقهم أحكام نهائية، ودمغاتٌ ثابتةٌ، والدليل مجرّدُ عبارة هنا، أو كلمة هناك، أو موقف سابق، أو ربما مما فُهِم على غير مراده. فما أحسن العدل والإنصافَ.!
شاذلي الحنكي