قرر بعض العلماء من مسائل البحث مسألة تخصيص شهر ربيعٍ الأول بمزيدِ عنايةٍ بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تذاكراً وتفاكراً ودراسةً وتأمُّلاً. وقد أفاد بعضهم أنّ الله قد خص شهر ربيع الأول بجملة خصائص منها : مولدُهُ صلى الله عليه وسلم، ووفاته عليه الصلاة والسلام، وهجرته صلى الله عليه وسلم، وكذلك بدءُ الوحيِ . وبيانُ هذا أن أول ما بُدئ به من الوحي عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة رضي الله عنها (الرؤيا الصالحة)، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبحِ. وكان ذلك قبل نزول القرآن بستة أشهر، وقد نزل القرآن أول ما نزل في رمضان، فإذا أحصيت ستة أشهر قبلاً وجدتَ أنك في شهر ربيع الأول، وبهذا يكون هذا الشهر موضع بداية الوحي الأولى. ويتحصل مما سبق أن شهر ربيع الأول قد شهد الكثير من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، وهل هناك أعظمُ من مولد ومبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ الفرحُ بهذه النعم وتذكرُها وحمد الله عليها في وقتها هو من جنسِ فرح الإنسانِ بكل نعم الله عليه، ومن جنس سروره كلما مرت به ذكرى يحبها ويشكر الله عليها، ولذلك لما سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: "ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ - أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ -" [ مسلم]. فجعل عليه الصلاة والسلام صومه لله شكراً له على هذه النعمة الجليلة. ومن كل ما سبق يظهرُ أن الفرح بهذا الشهر الكريم، وتذكر نعمة الله علينا فيه بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن ثمّ التنعّم بذكر سيرته عليه الصلاة والسلام .. كل ذلك مشروعٌ مرغوبٌ مطلوبٌ. وأضاف إليه بعض العلماء أن الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول هو من جنس حديثنا عن فضائل رمضان في رمضان، وعن الحج في الحج، وعن أحدٍ في شوال، وعن بدر في رمضان، وعن الهجرة في المحرم، إلى غير ذلك مما اعتادت عليه أفئدة العلماء الدعاة أن تتناوله على منابر وسائل الإعلام . وأرجو ألا يخلطَ أحدٌ بين هذا الذي أقرره وأنقله وبين مسألة المولد والاحتفال بها، فأنا لستُ من دعاةِ الموالدِ ومازال يرجحُ عندي رأي العلماء بمنعها وبدعيّتِها، ولكنني أيضاً لا أرى التحسس الزائد عند بعض الفضلاء إلى درجة أن يعدوا مجرد الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول باباً من أبواب البدعة ! ولا أظن مسلماً لا يستحضر السرور بميلادِهِ عليه الصلاة والسلام .
لسنا نتحدثُ عن ( المولد النبويّ ) والاحتفال به ..فتلك قضيةٌ أوثرُ أن أضرب عنها صفحاً، فقد تحوّلتْ من شاهدٍ على محبةٍ المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى سببٍ لمخالفة هديه عليه الصلاة والسلام ..! فالداعي إليها ربما خالف الهدي النبويّ بإحداث ما لم يكن من التصرفات والأفعال والأقوال، والمحارب لها أيضا ربما خالف الهدي النبويّ بالغلظةِ والقسوةِ .. ! وأصبحتْ هذه المسألة سبباً للشقاقِ الذي لا يحبه الله ولا رسوله، فكيف للفرح بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أو للدعوة إلى سنته أن تتحول إلى صراعٍ وشقاقٍ بين أتباعه صلى الله عليه وسلم ؟ ولو تصالح الطرفانِ على أنَّه لا يصحُّ أن يكون عيداً من أعيادِ الأمة لصراحة النص في ذلك، وأنه في نفس الوقت مناسبة سارةٌ لا حرج فيها من إظهار معالم السرور لكان في ذلك تقاربٌ واتفاقٌ. أكررُ بأنني لستُ أبحثُ في مشروعية المولد .. وبأنني فيه على رأي القائلين بالمنع، لكنني لا أفهمُ وجهاً للتحسس الزائد من إظهار الفرح بهذا اليوم الجليل. ويجب أن تبقى المسألة - علمياً- محلاً للنقاشِ المنطقيّ الهادئ.
شاذلي الحنكي