انتهى غزو الاستعمار الغربي على الشعوب العربية والإفريقية في ستينيات القرن الماضي وتحرر الرجل الأسود من ظلم الرجل الأبيض ، وذهبت حقبة سوداء في جبين الإنسانية ووضعت الحرب ضروس أوزارها ، بل معارك أكلت الأخضر واليابس وحصدت أرواح ملايين من البشر ،غالبيتهم من الشعوب الإسلامية المستضعفة. الجزائر وحدها قدمت مليون شهيد قرباناً في سبيل حريتها وفي يوم واحد ، حتى عُرفت فيما بعد ببلد مليون شهيد ، ولكن ما إن هدأت المدافع وانسحبت الجيوش الغازية عن بلاد المسلمين ، إلا وبدأت معركة أخرى أشرس وأعنف وأخطر منها نتيجة ، وهي ما اصطلح به الغزو الفكري أو الثقافي ، وإن كانت آلات الاستعمار القديم الصواريخ والقاذفات والقنابل والجيوش ، فإن الغزو الفكري أحد أدواته العولمة والإذاعات الموجهة وسينما ودور العرض والمسلسلات والأفلام الإباحية ووسائل النشر المختلفة كالانترنيت والصحافة والمواقع الالكترونية الهدّامة التي لا تريد للمسلمين إلاً ولا ذماً ، وإذا كان الاستعمار الأوروبي قد دخل في بلاد الإسلام عُنوةً ، فإن الغزو الثقافي دخل الآن في كل بيت مسلم دون أن يطلق رصاصةً واحدة، ونقل إلينا في عقر دارنا الفساد والمصائب وجلب لنا الشذوذ واللواط والزنا ، يستهدف الغزو المذكور سلفاً بشكل أساسي على شريحتين مهمتين في المجتمع ، أولاً- فئة الشباب ، يضلل بهم في متاهات الرياضة والموطة والفن والموسيقى ويغرس في عقولهم أفكار هدامة مستوردة وقلوبهم كراهية المجتمع والدين الإسلامي .
ثانياً – شريحة المرأة ، يغرر بها بسراب الحرية وأكاذيب حقوق المرأة ويخرج منها منزلها ويربي بها بثقافة التعري ويزرع في وجدانها كراهية الحجاب والحشمة، لتصبح فريسةً سهلةً لأعداء الإسلام ، ولتقع في شباك شياطين الإنس والجن، وفي شراكة دعاة على أبواب جهنم .
وفعلاً نجحوا في وصول فريستهم فقد وقع شباب الأمة ضحيةً لأفكار دخيلة تخالف تقاليد وأعراف المجتمع وتعادي الشريعة الإسلامية السمحاء، وأسوء ما تنشره هذه الوسائل الخبيثة بين الشباب هي فتن الشّبهات وفتن الشّهوات .
لست في سدد الدراسة والمناقشة في غزو الثقافي والفكري ، لكنني سأحاول تسليط الضوء على الأفلام والمسلسلات الأجنبية التي اجتاحت على البلاد العربية والإسلامية في الآونة الأخيرة وبشكل كاسح ، تتفنن وتتسابق في عرضها التلفزيونات العربية قبل غيرها الغربية ويستهلكها جمهور عريض وواسع جداً غالبيتهم النساء – لاسيما في جيبوتي- على مختلف أعمارهن وعلى اختلاف مشاربهن ومستواهن الثقافي . وهنا مكمن الفرس ومكيدة الغرب وازدواجية معاييرهم ومنتهى نفاقهم في تضليل الرأي العام الإسلامي والأفريقي .
هذه المسلسلات تحمل ثقافات تحمل هي نفسُها حقداً دفيناً في تدمير الأخلاق الإسلامية، كلها عبارة عن مشاكل متكررة بعضها عويصة وبعضها مشاكل تافهة ليس لها داعي بل تنقل تلك الأفلام وبشكل متعمد ومقصود مشاهد جنسية فاضحة كما تنقل أيضاً بعض اللقطات تشجع السرقة والجريمة على الأطفال وتعلمهم المكر والخداع وصور تشجع الانحطاط الأخلاقي والفساد المجتمعي كما تبرر في ارتكاب الجنح والفواحش وتكاد تنعدم الفضيلة والمعاني النبيلة والسامية في تلك المسلسلات الخليعة وكأن الشخصيات التي تدور عليها القصة حيوانات أو كالأنعام ( بل هم أضل السبيل ) كما وصفهم القرآن الكريم . فيما بينهم تتداخل وتتشابك العلاقات حتى تكاد لا تفهم أيهما حبيب حبيباً لأخر؟ وأيهم مزوج ؟ وبمن متزوج بمن؟ بل أكثرهم أولاد الزنا ، ربُ البيت ابن زنى وابنه ولد فراش، وبنته تقيم علاقات أكثر من رجل، وزوجته حدث ولا حرج، وجد وجدة مشئوم أعمالهما، وحفيد مشكوك نسبه، وحسبي الله أن يتابع مثل هذه المسلسلات في ديار المسلمين وأن يشاهدها بنات المسلمات وزوجات المسلمين وأطفالهم ،
فتن تروى وحكايات تدور كلها على شخصيات سلبية ومجرمة، هذا تاجر المخدرات وذك يبيع الخمر وأخر يرتاد الملاهي الليلية وبيوت الدعارة، ثم إنها أفلام قبيحة وقاتلة تقتل الوقت، فمن منكم يتخل أن يتابع فيلماً عرضه يستمر تسعة أشهر على الأقل وسنة كاملة أو يزيد وفي دوام أيام الأسبوع وفي كل يوم لمدة خمس وخمسون دقيقة ، تتخللها حوالي عشرة دقائق للإعلانات ، وخلال هذا الوقت يجلس هؤلاء المتفرجون والمتابعون أمام شاشة في سكون وأدب دون ملل ولا كلل . وللأسف في أوقات الصلاة ، وهذا ما أغضب ضميري وأجج كراهية مشاعري نحو تلك الأفلام ومن يقف وراءها ويدير دفتها، وهذه الفترة الطويلة وذلك الزمن البعيد الذي يضيع أمام شاشة التلفاز لأمكن لامرأة أن تحمل وتضع طفلاً وتسميه (مفكراً ) وكان بإمكانها أن ترضعه وتفطمه أيضاً، لتستعد لحمل طفل أخر .
وأخيراً أريد أن أستأذن من الأديب المصري الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي لأني سأستعير مقولته الشهيرة (فتّشت الفضيلة في كل مكان ). في كتابه النظرات ، أستأذن منه، وذلك من باب الأمانة العِلمية ، لذا فتّشت عن الفضيلة في هذه الأفلام فلم أعثرها فتّشت عن الفضيلة في تلك المسلسلات فلم أجدها ، فتّشت عن الفضيلة في المتابعين للأفلام تلك فلم أراها فيهم، فتّشت عن الفضيلة في القنوات التي تعرض هذه المسلسلات فلم أجدها ، فتّشت عن الفضيلة في المستوردين الأقمار الصناعية فلم أعثرها ، فتّشت عن الفضيلة في المجتمع بأسره فلم أراها، فتّشت عن الفضيلة في نفسي فلم أجدها، فتّشت عن الفضيلة في مجالس القات فلم أعثرها، فتّشت عن الفضيلة في السياسة فلم أجدها، فتّشت عن الفضيلة في مجالس القضاء فلم أجدها، فتّشت عن الفضيلة في ساكن القصر وساكن الكوخ فلم أراها، سيقول كثير من الناس أن الكاتب قد غلا في حكمه وجاوز الحدّ في تقديره، فالفضيلة لا تزال في صدور الكثير من الناس وفي كل مكان، وأني قائل لهم قبل أن يقولوا كلمتهم إني لا أنكر وجود الفضيلة ، ولقد ذهبت كل مذهب لألقاها ، ولكني أجهل مكانها .
بقلم / عبد الرزاق عمر جيلدون