ذات مسا كنت جالسا في مقهى أوزع نظري بين المارة وأنا احتسي فنجان قهوة شبه سارح بعد أن أزحت حزمة من الأفكار الثقيلة من راسي لأخذ نفس عميق، خرجت من مكتبي على أمل تغيير الروتين بعيدا عن أجواء العمل والتكدس الذي تعاني منها النفس لسبب  تفرضه عليك ضروريات الحياة، ومطالبها غير المنقطعة، فجأة أخرجني مشهد سريالي يدعو للدهشة في الرصيف المقابل للشارع من شرودي، وتابعت المسرحية من زاويتي في المقهى، غير أن عنصر المفاجئة اختزل المشهد كله مشهد لم أستطع استيعابه رغم حضوري الذهني وأنا أصور حلقات المسرحية بفضولي النهم ...  قبل دقائق اقترب مني شاب هزيل يميل إلى الطول داكن البشرة مجعد الشعر يغزوه السلع من جبهته الأمامية يظهر على محياه الإعياء والتعب ، عرض علي شراء نظارة شمسية و قبعة، يحمل بيده اليمنى كمية من النظارات الشمسية المتنوعة، وبالأخرى قبعات صيفية رجالية، أراد أن يحملني بالحديث عن الطقس وارتفاع درجة الحرارة ورطوبة الجو الخانقة، كمقدمة لعرض سلعته بحيل يركن إليها البائع لجذب الزبون المحتمل، هززت رأسي للرفض بفتور بعد ما نفذت منه كافة أساليب التشويق دون أن يتمكن من جذبي لشراء سلعته ، وبحركة سريعة تنم عن اليأس لملم سلعته وتحرك بخطوات إلى الرصيف وقف ينظر إلى اليمين تارة ولليسار تارة أخرى بانتظام كمن ضرب موعدا يترقبه بدقة من كل الاتجاهات ... للحظة انشغلت بحديثي مع النادلة لأطلب منها فنجان آخر من القهوة بعد انتشاء شعرت به وأنا أفرغ في جوفي فنجاني الأول، قمت بإضافة ملعقة من السكر في القهوة بعدما ناولتني النادلة بإمائة فاترة بينما علت شفتيها ابتسامة مصطنعة، ربما السبب يرجع إلى تعليمات الوظيفة لاستقبال الزبون بوجه بشوش ليس إلا!!!...، رفعت فنجان القهوة برائحتها الزاكية بشهية مفتوحة، عاودت نظري نحو الشارع وأنا أنتبه إلى الإزعاج التي تصدرها السيارات المكتظة بسبب الازدحام المروري ولمحت الشاب مرة أخرى يقطع الشارع بين السيارات الواقفة التي تصدر مزيدا من الإزعاج إلى الرصيف المقابل بموازاة الشارع الفرعي من الجهة اليمنى، بدأ الشاب يتوقف فجأة تحت إشارة المرور يعاود نفس الحركة التي كان يقوم بها بانتظام، أثارت حركاته البهلوانية فضولي هذه المرة وأنا أتتبعه بنظراتي، وعلى بعد أمتار منه توقفت سيارة سوداء فارهة من نوع (نيسان بترول) نزلت منها فتاة جميلة متوسطة القامة سرقت الأنظار بجمالها الخلاب تلبس كعبا عاليا وسروال من الجينز القصير وشميز أبيض من حرير ينساب عليه شعرها الكستنائي الداكن المسترسل ويلتف في عنقها شال أحمر يتلاقى طرفه بجانب كتفها مع شعرها الكستنائي المبعثر بفعل الرياح، وبذراعها تحمل حقيبة بنية من الجلد، لم تبارح الفتاة مكانها حيث نزلت من السيارة تفتش ما في هاتفها، ربما تبحث عن أرقام تود الاتصال بها أو تعاود النظر في بريد رسائلها بحثا عن رسالة مهمة تنتظرها بشغف، بعد دقائق توجهت الفتاة صوب الشارع الفرعي من جهة اليمين تخطو بخطوات مائلة لا تخلوا من الدلع بينما العيون تلتهمها من كل الاتجاهات، تستمر الفتاة بمشيتها دون أن تكترث لمن حولها وهي تقترب إلى الشاب الذي يقف قبالتها، والأغرب أن الشاب توقف فجأة عن رياضة عنقه لحظة كأنه متسمر في المكان، بينما علت شفتيه ابتسامة عريضة، كمن لمح عن قرب مفاجأة طال انتظارها، قلت في نفسي وانأ أتابع المنظر يا الهي ! هل ا 4;شاب على وشك أن يعرض سلعته التافهة على هذا الملاك ؟ أم أنه يريد أن يكحل عينيه كغيره من الجمال الآسر؟ انصدمت وأنا أسترسل على هاجس الإستفهامات، كان الذهول سيد الموقف حينما وقفت الفتاة أمام الشاب تحييه بحنية رقيقة تأسر الألباب وبقبلة طبعت على جبينه بفم يحوي فصوصا من اللؤلوء ...اعتدلت في جلستي وأنا في ذهول كغيري أتابع هذا المشهد السريالي؟ مشدوها بينما الشاب والفتاة منسجمان بحديث ودي لا يكترثان لما حولهما، وأخيرا وضعت الفتاة يدها على كتف الشاب واقتادته بمحاذاة الشارع الفرعي لتختفي معه تاركة ورائها رسائل مبهمة وعلامات استفهام ... ترى ما الذي جمع بين النقيضين وسط هذا الشارع؟ أهو الحب فعلا ؟ بالله ما هذه المفارقة ؟ هل بمقدور الحب أن يكسر كل تلك الحواجز؟ أم للمشهد ارتباط خفي آخر ؟ قمت من مكاني متثاقلا وأنا أهم لدفع حساب القهوة !!!.  

 

بقلم /محمد عتبان