في أصيل أحد الأماسي المطيرة في مدينة (وهان) الصينية قبل أربعة أعوام، وقفتُ عند قبالة نافذة غرفتي المطلة على الشارع الرئيسي، في المدينة بفندق مارشال أوتيل، أطوف بعيني الثملة بسحر المدينة، لمحت في الرصيف المقابل للفندق شاب وفتاة يجلسان على الأريكة الموضوعة للراحة في الرصيف، بعناق وانسجام قل نظيره بين العشاق في عالمنا، كأنهما إلهين إغريقيين هبتا توا مع المطر، المطر يهطل بشدة، درجة الحرارة تهبط إلى 6 درجة مئوية، أخرج الشاب قميصه في مشهد بطولي ألبس حبيبته، وهو عاري الظهر! مشهدٌ يندر تكراره إلا في الأفلام السينمائية،   ظل الحبيبين تحت العاصفة إلى أن انقطع هطول المطر، منكمشين على بعضهما، كعصفورين مبتليين يدفئان بعضهما بمنقاريهما من شدة البلل .. لم أتحرك من موضعي عند النافذة زهاء نصف ساعة، وأنا أتأمل المشهد في ذهول، لوهلة خطر لي أن روحيهما فاضت، بعدما ضاقت على حبهما الدنيا لتتحدا في عالم لا يصل إليهما الوشاة أوالحاقدين .. في تلك اللحظة توهمت، أن التاريخ يتشكل، ويسطر من جديد، حكاية خالدة ، متخذا من هذا الموضع ملحمة لا تقل عن تلك التي قلدها بمأساة مماثلة، وإن كانت تتقاطع فصولها وحلاقاتها باختلاف الزمان والمكان، حتى أصبحت ذكرى لعشاق العالم، عرفت بملحمة القس الشهيد (سان فالنتيير) ..  

بين تيه المشهد الحزين، ودوامة مشحونة من أفكار طارئة، مكهربة في رأسي، نتيجة المشهد بكل ما يحويه، من غرابة، واستفهامات، وتساؤلات ! لشخص مثلي، يأتي من عالم يختلف من هذا العالم كل الاختلاف، في الأدبيات، والمفاهيم، والنظرة إلى الحياة، بغض النظر في فلسفة الحب والوفاء والتضحية. وأنا بين متاهة الأفكار والذهول أمام مشهد حزين، تبادر في ذهني مشهد آخر رومانسي، جميل استوقفني في أحد شوارع المدينة نفسها، قبل أربعة أيام من هذا الحدث، بينما كنت واقفا في الرصيف أمام متجر الملابس، أنتظر رفيقي الذي بقي داخل المتجر، وعلى بعد خطوات مني بين المارة، توقفت الفتاة ومعها الشاب عن المشي،  

 وفجأة سحبت الفتاة كفها المشبوكة بكف صديقها، وبدأت تشرع في بكاء مرير في حالة أشبه ما تكون هستيريا، وبسرعة متناهية تركها الشاب مهرولا يقطع الشارع، قلت في نفسي يا للوقاحة ! أيهرب هكذا دون أن يهدئها ويلاطفها؟ كأنه استكثر عليها أن يسأل ما حل بها ! كيف يستحق هذا الرجل أن يكون جديرا بحبها؟ ترى ما الذي جعلها تظن أنه فارس أحلامها؟ بينما الجبان فر في أول امتحان له، وأنا أسترسل بين هذه التساؤلات ، طرأ في ذهني مشهد أحد الأفلام الحركة الصينية، لمقاتلة صينية تقضي على صديقها الخائن، بعدما ضبطته متلبسا بجريمة الخيانة مع أخرى،  

 ترددت في الحكم عليه، مدركا أنني في الصين بلد العجائب، قلت في نفسي وأنا أتبعه بعيني، ربما الأحمق هرب بجلده قبل أن تنقض عليه هذه النمرة، بعد أن اكتشفت خيانته  .. وإذا به يجتاز الشارع ويدخل متجرا لبيع الزهور بنفس السرعة، لحظتها أدركت أنه عرف ما يعتري حبيبته بحكم المعاشرة، وهرع إلى أقرب محل لبيع الزهور، ليبتاع لها باقة من الزهور الحمراء، .. في مشهد رومانسي أكثر من رائع، ركع الشاب أمام حبيبته التي ما تزال واقفة في موضعها تنشج في البكاء، بحركة لطيفة ومهيبة تنم عن الوفاء والإخلاص، ناولها باقة من الزهور الحمراء ليؤكد حبه لها وتعلقه بها..  

وبعد ملاطفة أعقبتها قبلات حارة، نهض الشاب يحمل حبيبته على ظهره بينما هي تلف زراعيها على عنقه، وفي كفها الأيمن تتدلى باقة من الزهور الحمراء، وشعرها الكستنائي يداعب جبهته محجباً الرؤية من موضع قدمه، كلما تبعثره الرياح. مضى بها من أمامي يغتال في مشيته مظفرا ثقتها مرة أخرى! انتبهت من شرودي بصوت القطار الكهربائي الذي يمر نفس الشارع  وإذا بالحياة تدب مرة أخرى إلى الشارع والأريكة خالية من الشابين ! يا إلهي ماذا جرى؟ يا للمسكينين أين اختفيا ؟هل نقلتهما الإسعافات بعدما فاضت روحيهما؟ وهل حقا كانا روحين صعدا إلي السماء مع العاصفة أم أنني في أحلام اليقظة ؟!!!.       

 

بقلم 

محمد عتبان