كان آخر لقاء لهما في مطعم لونشون الكائن بحي إيرون والقريب من منزلها بجوار المركز التجاري (كاش سنتر), فى الليلة الأخيرة قبل سفرها.. كان قد إتصل بها من محموله وجلس ينتظرها. وما أن جاءت وجلست قربه ,حتى تشتتت أفكارهما , وضاع كل ماعداه من كلام , ليبقى الصمت فقط معبأً بالدلالات ,و محاصرا بالرموز التى تفوق «إحتمال» المكان ! .. وعندما ابتعدا فى إتجاهين متعاكسين .. توقف يتابعها ببصره وهى تنأى , حتى غابت دون أن تلتفت ..

فى التليفون إستمع حمد إليها طويلا ,وعندما صمتت لم يجد شيئا ليقوله فهمست بما تسرب إلى رئة المكان من شجن ..ليتنفس مواجده فى زفرة ملتهبة.وهو فى الطريق إلى شقته الصغيرة فى حي أنجيلة .

إتصل بها فى المطار .. لم يتمكن من الوصول إليها .. كانت طائرتها قد أقلعت , تحملها إلى منفاها البعيد ,إلي فرنسا لمواصلة دراستها الجامعية بعد حصولها علي منحة رئيس الجمهورية للأوائل الغشرة .

فخلفت له وراءها رائحتها وملامحها فى كل شىء حوله بعد مرور سنة كاملة عادت اسمهان إلي أرض الوطن بعد حنين طال , محملة بالبشارات كأنشودات خريفية يانعة, وكوعد خصبة زمن غامض!أشبه بالقدر وهو يخص به مكانا أشد غموضا لم ينم إثر مهاتفتها له .. ظل منتظرا هذه اللحظة التى إشتاقها منذ وقت طويل , وهو يستعيد المكالمات الطويلة منذ الصيف الماضى , عن الذى جرى معها ومعه ..عن الغربة وحكايا الليال الطوال .. عن الحنين إلى وطن فى الدفء وكان أحمد يعرف موعد وصولها فطار إلي المطار بحث عنها فى الزِّحام حيث تنتظره. يتفاعل فيها الشوق والحنين والترقب , ليعطى إنتظارها معنىًّ كونيا عميقا ومتحفزا .. طعما متوترا برائحة القلق الخرافي , فلا تستشعر القادمين والذاهبين ... تبحث فى هذا الرِّكام عن وجهه الأليف .. وجهه الذى تركته خلفها فى الخطابات والصور والرسائل الإليكترونية ... وجهه الخارج من الصمت إلى الصمت .. أمامها .. حمله طيفها . عله يخرج من الزحام فجأة مبتلا بالوعد و ومعبأ بالمواعيد إقتنصتها عيناه من بعيد.. فارعة تبدت اسمهان عن سحرها العميق ذاته,الذي لم تمحوه الغربة , وكإثنين محملين بحنين الأرض لأشواق السماء . إحتضنها بقوة دون أن يأبها للزحام!.. كانا حاضرين فى الغياب غائبين فى الحضور!!..وكالمغيبين فى إغماء طويل , لم يستشعرا النظرات الدهشة للناس الذين التفوا حولهما!!..

أحبها كما لم يحب من قبل . حاصرته بدفئها وعذوبتها وهدّت كل القلاع التى يحتمي بها .. دهمته خارجة من تلافيف ماض حميم , إلتقيا على إضاءاته الخابية بهدوء, وعلى مفترقه مضيا فى صمت جارح .. لكنهما ظلا موسومين , بذاكرة الجروح النقيّة الحية . المتجددة كشجن ممتد, وحنين لا يخمد ..ولا يطويه الزمان ولا المكان ..كالمطلق خارج التحولات .. خارج التغيير .. ففى المنتهى , يتبديا كروح زاهد , يرتقى مدارج المحبة والسلام .

بشقته الصغيرة أجلسها على حجره.,وأخذا يهدهدان بعضهما كالأطفال...يصلبان حرمانهما .. عجف الزمن .. جور الغربة , وقسوة الحياة بشقته الصغيرة أجلسها على حجره.,وأخذا يهدهدان بعضهما كالأطفال...يصلبان حرمانهما .. عجف الزمن .. جور الغربة , وقسوة الحياة.

كلما تذكرا أزوف الفراق من جديد كانت نيرانهما تزداد إشتعالا ولا تخبو .. وكان ترقبهما لميقات رحيلها يشعل في القلب أشواقا لا تنضب ,تمور كالأتون .. إشتعلت الغرفة بالحميمية , بالتوتر , بالقلق . بالإنصهار .. لتتناثر بقايا صور فوتغرافية توقف فيها الزمان عند لحظات نابضة بالوجد والمواجد ..تنفتح على نافذة واحدة للشجن والحنين..

بعد أن استجمع خرافة قواه,وكبت في قلبه ألمه الذي أضناه,

مسح دمعا كان في العيون.

استيقظ في اليوم الثاني بذاكرة متوعكة , وجسد يمعن في غربته عنه ..أحس أن هناك فجوة في عقله ملأى بهواء فارغ , صور تهيم في شوارع ذهن مشتت , ثم تغفو منهكة على أرصفة النسيان , وجوه في غرفة ضيقة من الذاكرة تداخلت وسط الزحام ملامحها ..

جسده الممعن في غربته بعد رحيلها بدا خرقة بالية.

ارتمى على هيكل السرير كيفما اتفق...

جلس على الكرسي , يميل برأسه إلى الأعلى , ينفث فمه هواء.

.. منذ لحظة الوداع وانا افكر فيك واحلم بك لا تعلم مدى فرحتي عندما اتذكرك ويمر بخيالي طيفك أتذكر أحاديثك العذبة

وابتسامتك الجميلة . بحواسي وبقلبي وحبي الذي يقودني اليك بلهفه.

كنت أعلم أني ولدت لأجلك فقط.. أنت منقذي من عالم بارد الأرواح .. من جفون تسكن إلى القبور إذا ما أطل ليل

وأنا لم يبق لي الآن سوى كتاب الأيام التي جمعتنا، أقلب صفحاته برفق، فبين دفتيه عمر بحاله، وصفحاته هي الشاهد الوحيد على وجودنا يوما. قصصه التي كتبناها وكتبتنا، هي ونيستي الآن، أرويها لك و لكرسي خشبي هزاز لم يقبل احتوائي.

هل أنت سعيدة بمكانك يا عزيزتي؟ أتشعرين بالبرد، أم أن يد موقدتي طالتك...؟

اليوم اشتريت عصا، نقشت عليها اسمك واسمي ، ثم ضحكت من سخفي،

في لحظة شوق تركب سفنها وتبحر صوبها ، ثم ترسو على شواطئ خالية إلا من مرافئ الماضي

لا ..... أنتِ معي ..أنت لي .

تبتسم لي صفحة أحفظ الكلام فيها عن ظهر قلب ؛فأحاديثنا طائر لا يتوقف عن التغريد على أغصاني .

وهو يعيد على مسامعي ما قلناه في ذلك اليوم

 

جلس ناظرا الى الافق البعيد منتظرا الصوت يقترب الاضاءة تسطع امامه تقترب اكثر فاكثر مع صوت الصفير المزعج والذى يدل على هبوط الطائرة في مطار حومبولي الدولي واخيرا سكنت عجلاتة عيناه تبحث فى الكتل البشرية الصاعدة والهابطة خليط عجيب من الازياء والشنط سمع صوتها وهى تنادى من بعيد اسرع الخطى

يا الله انها حبيبتي لكم اشتقت اليها وقفت امامه والدموع تنهمر من اعينهما اخذها فى حضنه بكت لقد اشتقت اليك والى بلادى ابتسم لها ومسك يديها وذابا فى فرحة اللقاء

 

جمال أحمد ديني