دخلت المحكمة وعمري لا يتجاوز الخمس سنوات.. وقفت أمي تتكلم وتتشنج بقوة? ثم تتوقف كي تمسح دموعها.. وأبي يصرخ من بعيد و»أبوبكر جعلو « واقف في القفص. يرفع يديه مشيرا للسماء.. او سقف المحكمة مرددا «ربنا احكم الحاكمين».. وكان علي ان ادلي بالشهادة امام القاضي.. الذي بدا لي مرتفعا جدا ومعلقا في الهواء فوق رأسي.. وعندما سألني حكيت له كل شيء كما وقع وبالتفصيل الشديد.. كيف كنت امشي مع أمي في السوق في ساحة محمود حربي مقابل مسجد حمودي  وكيف هجم علي « أبوبكر جعلو» ليخطفني ويضعني فوق كتفه حتي اوصلني للسيارة التي كان ينتظرني فيها أبي.. وكيف أخذني أبي الي بيته الثاني  ، وكيف عذبتني زوجته وجعلتني  أجوع وأخاف وانا وحدي في غرفة مظلمة .. وانادي امي.. وبكي الناس حولي وصرخ « جعلو « «كذب  .. والله العظيم كذاب»..

فنهره القاضي؟ وتركتي اكمل حكايتي.. اخبرت القاضي كيف انهارت امي بعد أن افتقدني ، ونقلها الي المستشفي بعد  أن أغمي عليها وسقوطها علي الارض ، وكيف بقيت مصدوما لايام أمام هذه الايام الصعبة والقاسية  

حتي اوقفني القاضي ليتلو حكمه وسط صمت رهيب خيم علي القاعة والجميع كأن علي رؤوسه الطير،  لست اعرف بماذا حكم القاضي اذكر فقط انه قال كلاما كثيرا. وان «جعلو « دخل السجن ــ بينما تلقي والدي تحذيرا شديد اللهجة من القاضي من مغبة تجاوز حكم حضانتي الممنوح لامي فخرج في حالة غضب تقترب من الهياج. هكذا قالت خالتي بشماته وهكذا تعرفت مبكرا علي القانون ورجاله وتعودت علي احترامه فقد كان خال امي «حمد برهان « قاضيا لا يذكر اسمه في دارنا إلا مصحوبا بالتوقير العظيم وبلهجة مفعمة بالفخر أما جدتي لأمي  حواء اسماعيل فكانت تحثني علي الدرس حتي أكبر وأصبح قاضيا مثل خالي حمد

ورغم ذلك كبرت وفي رأسي طنين حول القانون وأهله وما هي القوة التي تمنح رجلا عجوزا القدرة علي سجن الناس واحيانا اعدامهم فهو ليس قويا يصرع الناس ولا مسلحا  يحمل بندقية ثم ما هو القانون نفسه؟؟ من اين جاء؟ ومن الذي وضعه في المحكمة.

اول من تطوع لشرح هذه المعضلة لي كان الشيخ عبيرو امام جامع في حي ارحيبا وهو محام شرعي ورئيس. قال لي :

«كل القوانين التي في المحاكم قوانين وضعية أي وضعها البشر? ولذلك فهي باطلة لأن البشر يخطئون ويصيبون ولذلك تأتي قوانينهم تحمل عجزهم وقصورهم  

اما القانون الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو كتاب الله الذي لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا احصاها فهو فوق كل القوانين بل هو قانون القوانين ....  

وبحثت في المصحف عن عقوبة  لـ « أبوبكر جعلو  « الذي خطفني ليعذب أمي ارضاءً لابي فلم اجد».  

وسألت الشيخ عبيرو عن عقوبة قرآنية  لـ (أبوبكر جعلو  ) وكان يعرف حكايته معي فقال الرجل دون ان يرف له جفن:

ــ «يعاقب عقوبة المفسدين في الارض الذين تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.. فهو مفسد في الارض؟جعلك الله من المصلحين في الارض  

وتطلعت حولي فوجدت اننا نعيش حياتنا مكبلين بالقوانين منها ما نزل من السماء ومنها ما اخترعه الكورسيكي نابليون او جمعه الروماني «شيشرون» بعضها نعرفه واكثرها لا نعرفه ولكن جهلنا بالقانون لا يعفينا من المسؤولية.. وبدأت اتوجس خوفا من القوانين المجهولة التي قد اخرج عليها دون علمي  .

بقية القصة في العدد القادم  

 

بقلم / 

جمال أحمد ديني