فتجاهلت كلامه واكتفت بالتحديق في عينها، فحاول المحاسب إقناعها، ولكنها أَبَت إلا أن تكون هذه الطاولة تحت تصرفها، ومن حجزها يمكنه أن يشاركها القهوة.

----

وصل الجاحد -كما سمَّته- متأخرًا ساعتين، فوجدها تربَّعَت على عرشه الخاص، أبغضه الأمر لكنه تقبَّلَ الوضع كما هو، وجلس على الكرسيّ المقابل لها على نفس الطاولة فحيَّاها تحيته الطبيعية

«سلام الله على كل من قدّر إنسانيتنا ورحم ضعفها»

فاجأها السلام بغرابته فجارته بـ «وعليكم»

قدَّم له النادل القهوة دون أن يطلب وقنينة مياه (جودا المعدنية) ودفتر أزرق مكتوب على غلافه «حسابات (Matarro)، انغمس حتي أذنه في الحسابات غير مبالٍ بالرفيق..  وحده على الطاولة.

حاولت بكل السبل أن تنبهه بوجود شخص يشاركه الجلسة، ولكنه غاص في فلك الأرقام.

 

من أنت؟!!

باغتته بهذا السؤال وبنبرة تُوحي بالعصبية

لم يكن منه رد فعل سوى صمت زادها حنقًا وانفعالًا

أعادت السؤال: من تظن نفسك لتجلس على نفس الكرسي معي؟ ومن ثم تتجاهل وجودي على الرغم من أني سبقتك، ألم يكن من الذوق أن تستأذن أولًا، أي نوع من الرجال أنت؟

ابتسم.. من دون أن يرفع نظره من الدفتر فقط اكتفى برفع طرف حاجبه مواصلًا الصمت اللامبالي، ولم يتغيَّر المشهد لمدة ساعة ونصف، وهو في صومعته متعبّد وناسك بصمته وهي بتساؤلاتها غارقة تحترق.

وأخيرًا؛ ترك لدفتي الدفتر الحرية ليتعانقا

نادى (أيها النادل الوسيم): اتصل بالسائق الوسيم يجهِّز المركبة

استسمحها عذرًا وحيّاها وهو واقفا «سلام الله على كل من قدَّر إنسانيتنا ورحم ضعفها» فبارح المقهى بعدما سلّم دفتر الحساب؛ وهمس في أذن المحاسب كانت سيارة ليموزين على باب المقهى بانتظاره.

 

نادت النادل بإشارة وطلبت منه الحساب، وأجابها: تم دفع حسابك

سألته بنبرة لا تخلو من الحدة: من؟

فرد بهدوء: «البوس»

أحست بغصة في حنجرتها وقالت: ليس هناك من يدفع عني

وقفت مسرعة طالبة من المحاسب الفاتورة

ردّه لم يختلف عن النادل.. وأصرَّت أن تدفع ولكن المحاسب أقنعها أنه يمكنها إعادة المبلغ غدًا إلى صاحبه، ولم يكن بيدها حل آخر إلا القبول؛ فاتجهت مسرعة نحو سيارتها.

(3)

من يكون؟

سلامه غريب!!

ولماذا دفتر حساب المقهى بيده؟

ولماذا يناديه بالنادل الوسيم؟ وما الغرض من حجز المقعد الخاص له؟ ولماذا لا يجلس أحد على هذه الطاولة والكرسي سواه؟.. بما أنه تجاهلني كليًّا فما الذي دفعه إلى دفع حسابي.

(4)

اليوم الثالث

وجدته سبقها اليوم، فجلست من دون سلام أو إذن منه لمشاركة الطاولة وبادرته «لماذا دفعت حسابي؟»

ابتسم بطرف شفتيه وطلب لها من نادى النادل الوسيم القهوة كما تحب هي؛ وما زالت هي مُصرَّة على معرفة سبب فعله..

أجاب: لأننا تشاركنا الطاولة.

صار من يومياتها أن تشاركه الطاولة ساعتين على الأقل مع تطوّر بطيء في تجاذب أطراف الحديث، مرّ شهر وثلاثة والعلاقة تتقدَّم بخطوات تناسبه هو، ومزعجة لها؛ لأنها لم تتعود على تأخر طلباتها أو رغبتها؛ تعوّدتْ عليه وتعوّد عليها (على الرغم من قلة تجانسهما وقلة حديثه)

 

ولكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن..

 

تأخر أيّ منهما عن المقهى كفيلٌ بتعكر صفو الآخر.

(6)

في أحد الأيام لم يحضر تغيّب من دون إعلامها.. انتظرته.. انتظرت طويلًا

لم يظهر..

أشارت للنادل:

مرحبًا أيها النادل الوسيم -أول يوم تناديه بهذا الاسم وتفاتحه الحديث بهذا الأسلوب الأنيق- هل تعرف أين هو ولماذا تأخر؟

النادل الوسيم: أتقصدين البوس ؟

قالت: لا أقصد رئيسك في العمل.. أسألك عن شريكي في الطاولة رقم (7).

ابتسم النادل الوسيم وأجاب: سافر سيدتي

أصابها التوتر وأخذت رشفة من الماء

سألت النادل: إلى أين.. ولماذا... ومتى سيرجع؟

النادل الوسيم: لا أعلم

أغلق كل حساباته في المقهى والفندق، واحتمال كبير لن يرجع قبل سنة أو اثنين رافقته أسرته أبناءه الثلاثة وزوجته إلى...

أحست بغصة في صدرها كأن شيئًا حادًّا اخترقه.

قالت للنادل الوسيم: لو سمحت الفاتورة

فرد عليها: البوس أوصانا أن تكون قهوتك على حسابه.. ويبلغك سلامه

همّت بالمغادرة وقبل أن يدرك أو يتنبه النادل لحزنها أو تفضحها دموعها.

أتاها المحاسب سلّمها شنطة هدية صغيرة

وقال: تفضلي سيدتي هذه أمانة البوس.

أخذت الشنطة.. وخرجت بخطوات سريعة تبدو للرائي من بعيد بأنها تجري، وارتمت بحضن سيارتها، وفتحت الهدية

وإذا عطرها المفضل وظرف عليه اسم؛ فسارعت بفتحه وبعدما فرغت من قراءة الرسالة أسقطت دمعتين عليها ثم وضعت رأسها على مقوّد السيارة،

وظلّت ربع ساعة على هذا الحال من دون أن تحس بنفسها، ثم تنسّمت وشهقت شهقة كأنها تشمّ عبقه الباقي على الرسالة.

غيّرتّ حالتها في الفيس بوك إلى «الشعور بالشوق» وكتبت قائلة:

يا غائبًا بالصمت قد رحلا

غازل قلبي دون الحرف واصطادا

أين الغياب؟

ألم تدرك وقد ملكت روحي

أم أنك في علمِ..

واخترت الجهل.. والهَجْر

يا غائبي عدْ واكحل بصمتك عينًا

في الشوق تحترق.

انتهت

 

بقلم القاص والكاتب /

حمد موسي