في وسط البلد، وفي طريقه إلى مقهاه ليحتسي قهوته السمراء، صادف تلك الفاتنة التي قالت له يومًا: «أنه لن يراها ما طلعت شمس وغربت»، رَآهَا.. تملّكته الدهشة واستحضرت ذاكرته تفاصيل جسدها.. مشيتها.. ابتسامتها.. روحها العذبة.. رقتها.. جمالها!!

الصدمة...

لم يكن شيء في مكانه كما اعتاد

لم يكن جمالها خاطف للبصر كما كان، ولا نهديها قاهرة للأعين، لم يعد كشرطي مرور يعاقب أي نفس تتجاوز طبيعته الساحرة، أمَّا خصرها فكأنه مطاط بين يدي طفل مشاغب، أجاد التلاعب به ما وسعت مخيلته الطفولية.

مشيتها... تمشي وكأنها سبعينية، أخذت من الزمن نصيبها الأوفر.. وترفع رجلها بتثاقل كمن وقعت أقدامه في الوحل المتحرك، وللرائي من بعيد تبدو أنها تستند إلى عكاز وسواعدها غير قادرة على حملها أكثر.

كفى.. كفى.. قال في سريرته

وتساءل: ما الذي أصابها؟ ماذا حدث لها؟ أهذه هي أم... أم اشتبه عليَّ ملامحها بامرأة أخرى.

أعاد النظر وراقبها من بعيد، وتساءل:

هل خمس سنوات تفعل بالإنسان هكذا؟

21\3\2018

---------

استرجاع

قالت وفي صوتها نبرة حزن وحسرة..

«أراك تتحدث عن مستقبلك بسوداوية قاتمة، خاصة فيما يتعلَّق بالحب؛ كأن قلبك لم يعد بعد رحيلها ينبض، وبرحيلها نكّستَ الراية وتنازلت عن كل ما يربطك بالحاء والباء».

قال: نعم

كما قُلتِ يا صديقتي

معها أخذت القلب بدقاته وحياته

وافتقدتُ معنى أن أكون حبيبًا ومحبوبًا

أتعلمين يا صديقتي أنني منذُ رحيلها عزفت عن القراءة خوفًا أن يصادفني حرفٌ من اسمها.. حدثٌ أو موقف يثيرُ في نفسي ذكريات.. لحظة رومانسية أو عتاب.

كل شيء يفقد معانيه السامية والجميلة عندما نفقد ما كان يُمثِّل بصيص أمل في حياتنا، فهي كانت الضوء المنبثق...

تلعثم وابتلع ريقه..

وأراد أن يسترسل.. يا صديقتي كانت...

قبل أن يُكمل حديثه أحس في عينيها ماء أبيض، وانتفخ وريدها الغليظ بين حاجبيها، ظنَّ أنها تشاركه اللحظة وتقاسمه.

سكت لبرهة

وقال لها: لم أقصد أن أُعكِّر صفونا، لا تحزني، تخطَّى صديقك هذه المرحلة بكل ما فيها، لم تعد سوى ذكرى أليمة.

تنهَّد..

قاطعته: ماذا كنت تقول، احك لي عنها أكثر.. ماذا كانت؟ قال: كانت معنى للحياة، ونبراس لكل ما هو لي

تركتني.. وتحكّمتْ بمصير قلبي ولم يعد –القلب– صالحًا للحب.

قالت: يؤلمني حديثك عن الحب بهذه الطريقة

يؤلمني أن أسمع هذه الكلمات منكَ

كيف لشخص مثلك أن يحب مثلها.

يا صديقي: ارحمني.. وارحم نفسك، فلامَسَ في صوتها وجعًا حقيقيًّا، وأن نبرتها تزداد بحّةً تكاد إلى الأنين الأقرب. فسألها ما بك؟ قال ذلك بنبرة هادئة.

أدركت أن ما تشعر تجاهه يفقدها التحكم، وانفعالها يُعرِّي سرها.. عاطفتها ترسم الأحرف ولسانها ينطق بها.

قالت وعلى وجهها ابتسامة باهتة: تأخرتُ كثيرًا.. ألقاكَ على خير يا صديقي، ولا تنسَ الاعتناء بنفسك، فإن لم يكن ذلك لأجلك، على الأقل لأجل قلبٍ ينتعش بحبك في مكان ما، ووقفت مسرعة، وقبل ما تُبارح الكرسي، دسّت في جيبه قصاصة ورق لم ينتبه لها إلا عندما فارقته.

البقية في العدد القادم 

 

الكاتب والقاص حمد موسي 

وجد نفسه في المكتب، لم يتناول قهوته في الصباح، أنساه المنظر كل شيء سوى الذكريات، قادته الذكريات؛ فذكرياتهما معًا كانت كل شيء بالنسبة له.. صديقته.. أخته.. لم يُفكِّر أنه سيأتي يوم ليس باستطاعته حتى السلام عليها، أو السؤال عمَّا فيها، اليوم هي غريبة عليه بكل شيء، جسدًا وروحًا.

تذكَّر.. نظراتها.. ضحكاتها.. السهرات.. الأغاني والكتب.. ونشاطها الدؤوب، كانت حياة مرحة، أما اليوم فهي لم تعد تلك الجميلة الفاتنة.

لم يحتسِ القهوة.. لكنه تجرّع قهوة الذكريات، قهوة أنسته سوى أنه لم يكن منصفًا معها يومًا.

كانت وردة توليب أينعت بحبه وذبلت فيه..

وقال لنفسه: لم أكن منصفًا معها.. لم أكن منصفًا، وارتمَى في أحضان مكتبه، واستحضرت ذاكرته آخر ما تبقَّى منها؛ قصاص ورق.. يحتفظ بها في محفظته، كلما غيرّ المحفظة نقلها إلى الجديدة.. الوداع:

«أحببتك كثيرًا، وكرهتُها بقدر حُبِّي لك، ومدى عشقك لها، فكلما نطقتَ حرفًا من اسمها زدتُ بغضًا لتلك الأحرف، كان أملي أن أكون يومًا في مكانها، وأن أحظى بشيء من الاهتمام، فكيف لا تحبُّ أنثى إنسانًا يعطيها كل شيء، الحنان، والأمان؟

أتعلم يا حبيبي أنني لن أحب أبدًا؛ لأنك لم تترك لغيرك مكانًا، وسأتزوج من لم يُحبّه قلبي، وأعلم جيدًا أن هذا الزواج سيُلبِّي طلباتي المادية؛ البيت المريح، والسيارة المكيَّفَة.. وهذا هو المهم الآن.

لا تخف لقد اخترت بعناية، ومن مصلحتي أن أتزوج من سيوفِّر كل طلباتي.

أحببتك، وسأظلُّ وفيّة لقلبي كما أنت وفيٌّ لصداقتنا.

أحبك يا صديقي.. لن تراني بعد اليوم.

 

 

رسالة اعتذار إلى الفاتنة

علمتني الحياة أنّ مطالبي منها غير قابلة للتحقق، اختياراتي دائمًا شديدة التّشابك والتعقيد، لا تقبل التساهل، مبادئي تقودني حيث تكمُن الصعاب.

ذات يوم قالت لي الفاتنة: أخطائي في حقك قاتلة، وعقلي خلف لساني، لا أتحكم في شيء إذا تعلَّق الأمر فيك.. لا تتركني إن زلَّ لساني وغلبني، فاحفظ لي عندك ودًّا أشق به دياجير الليالي، وصعاب الحياة..

قالت: أريد وعدًا لا تخلفه، بأنك ستكون سندًا في لحظات ضعفي، وعصاي التي أهشُّ بها مساوئ نفسي.

اعتذر اليوم لورد الربيع.. توليب

خنتك عندما زلَّ لسانك، فهجرت الإخوة والصداقة

أعتذر لأنني اخترت نفسي وقطعت حبل الودّ بيننا..

أتذكر الآن كم كنت فظًّا غليظ القلب.

أعتذر وألتمس العفو والسماح منك، فإني لا أريد لقاء ربي وعلى عاتقي دمعة من دموعك، وعهدًا لم أوفِ به..

الحياة إن كانت قاسية عليك.. فإنها لم تكن الأسعد لي، وفرحتي في هذه الدنيا أني حافظت إلى اليوم على مبادئي وقيمي، وأني وجدتُ إنسانة تتقبَّل كل مشاكلي وتساعدني على الاستمرارية.

آسف، آسف لكل صديق خيّبت ثقته عمدًا أو سهوًا

آسف لأمي وأبي؛ لأني لم ولن أكون ذلك المُنقِذ من براثن الحياة..

آسف، فالحياة لم تكن ورديّة.. 

 

 

 

الكاتب والقاص حمد موسي