حبيبتي أمل: تأخرتُ في الكتاب إليك، وأطلتُ الغياب عنك،  لأن الكتابة إلى الحبيب وعن الحبيب تتطلب قدرا من صفاء القلب، ونفس القدر من صفاء الروح، وهذا ما لم يكن متاحا لي .. بين الكتابة والحذف مكثتُ شهرا، حتى لاحت وألحّتْ إليّ فكرة في أن أكتبُ خاليا من روح الحب، وفشلتُ في هذا أيضا. وكيف لمدمن يهوى الحياة بين يديك أن يتوب.

إن الفشل الذي أعيشه في حبك ألذ وأشهى من نجاح سأناله خارج أسوار جنتك العامرة حباً. وسأبتغي مرضاة قلبك وإن كان ثمنه الفشل، وأوسم به دهرا وحقبا.

كتبُ لك وإليك عن فلسفتي في الحب، وحاولتُ أن أجاوب خلالها على بعضٍ من تساؤلاتك، إلى أن صادفتُ سؤالك عن الغَيرة، وقلتُ فيه ما ألم أقل بالحب وفيك، وقبل أن أختم ذاك المقال، ظل في قلمي شيء من الغيرة أبى أن يسدل الستار، ورأى من تمام الحب أن نناقشه عبر أثيرنا، المتردد صدى صوته في القلوب المتآلفة.

 لم أجد  أنسب مدخلٍ لبدء موضوعنا (غيرة المعاصَرة) من هذه القصة القصيرة جدا، والأصح قولا؛ أني مقدرتي الكتابية في هذا الموضوع لم يسعفها إلا هذا المدخل.

__

 

القصة القصيرة جدا

 

أحبها، فأحبته، وتعلقتْ روحها فيه، وفي يومٍ جاءها عريسا؛ طارقا أبواب قلبها وطالبا وصلها للأبد - مهيبٌ ووسيم، ذو نسب ومال - فأخواتها  عارضن فكرة زواجها، وهي أصغرهن عمرا وأوفرهن حظا في الجمال والعلم ... أقنعوها بأنها تستحق من هو أفضل منه،، وأنها .... فأغراها ما قالوا في حسنها من ثناء... ردت حبيبها.

 تعيش اليوم وحيدة وكئيبة، وفي صدرها آلام لا تهدأ. تزوج أبوها ثانيةً بعد وفاة الأم؛ أما أختيها لا يجدن فراغا ليطمئنوا عليها - يعشن في هناء وسعادة مع أزواجهن - وكلما اتصلتْ،  يتلُون إلى سمعها أُحْجية: «الأولاد لا يتركونا لنا الوقت! يملؤون دنيانا وأوقاتنا ... إن الأولاد كذا وكدا ..» ترجع إلى وسادتها باكية.

 

انتهت

___

 

هذه القصة القصيرة جدا، تزيل اللثام عما أقصده بالغيرة المعاصرة، فالغيرة شعور إنسانيً نبيل بصفة عامة ولكن هذا النوع نابعٌ من ذاتٍ حقودة تكره النجاح وكل مسببات السعادة للآخرين.

غالبا مردها المعاصرة، أو الحقل المعرفي، وتكون بين النظراء، كالعلماء، والكتاب، وبين الأصدقاء أيضا، مثلا: إن خبر نيل عالم أو كاتب ما جائزة تقديرية يثير غيرة في نفس عالم آخر منافس له أو كاتب، لأنه قد يرى أنه الأحق منه بها.

وأيضا، خبر ترقي صديق ما، قد يوجد في مكنون الأصدقاء شعوراً بأنهم يستحقون ما أصابه من الخير، لكن يكون أكثر وقعا على أحدهم من البقية، فالأخير، لا يتمالك عواطفه وتظهر عليه سلبيات إحساسه الداخلي وتنعكس إلى تصرفٍ، مثل التقليل من الإنجاز، كاستقبال الخبر بمزحة باهتة، أو محاولة تغيير مسار الحوار إلى وجهة أخرى ... إلخ.

 

ماهي مسببات هذا النوع من الغيرة؟

 

شرح مسببات أية بواعث نفسية بشرية مخاطرة، ولا تخلو من فراغات وفجواتٍ لا يمكن ملؤها، لأنها في النهاية محاولة لاستقراء النفس، والتي تختلف  من شخص إلى الآخر .. وأكثر المحاولات ما هي إلا إضافة صبغة ذاتية للكاتب/ الدارس سواء صبغة شخصية أو بيئية مغلقة.

يمكنني أن أرجع المسببات إلى الانغلاق، والأنا الغالبة، أوعز المفكر (علي الوردي ) هذا النوع من الغيرة، إلى ما أسماه القوقعة البشرية، حيث رأى:

«إن الإنسان يحب مصلحته الشخصية، فكلما وصل إلى هدفٍ سعى إلى آخر وفي ظل المنافسة مع غيره ينشأ شعور الحسد والغيرة».

تزداد احتمالية حصول (الغيرة المعاصرة) لدى الفرد، كلما كان منغلقا ومكتفيا بذاته، ومنعزلا عن المجتمع، ويصبح أكثر عرضة لهذا النوع من الغيرة، لغياب سمات  المشاركة لديه في الأحزان قبل الأفراح.

 العلاقات الاجتماعية والتواصل المعرفي يقلل لدى الفرد هذه الغيرة، لأنها تخلق ثقة في الذات ما ينعكس إيجابا في تقبل وتقدير انجازات الآخر.

 

الغيرة المجالية/المعاصرة أساسها الفردية والأنانية، النابعة من:- 

 

١- غياب روح الجماعة.

٢- فقدان الثقة بالنفس، ومقارنة القدرات مع قدرات الآخرين.

 

حبيبتي أمل: قد يبدو لك ما نقلته اليوم، مجرد حكاية، وقد تسألين، ما علاقة هذا بنا؟ وأنا لا أعرف علاقته فيك وفي حواراتنا السابقة، لكن هذا ما ظل في قلمي من الغيرة، وأنا رجلٌ لا يعصي قلمه، وأطعته فيما أراد، كي لا أحبس في جوفه شيء من البوح المباح.

حبيبتي أمل: قلتُ في حوارنا السابق عن الغيرة، (مجيبا على سؤالك):-

«فأنا رجلٌ لا يقاوم رؤية فتاة متناسقة القوام، أو مصادفة نص أدبيّ  بديع ...»، كأن قلمي يلمحُ إليّ، ويشير بأني رجلٌ به مسٌ من غيرة المعاصرة، حيثُ يثير - النص الجميل، والقصة الجميلة، والفتاة متناسقة القوام - الغيرة، وأخفي في نفسي ما لا أبديه.

____

 

أخيرا، وقبل الختام سأضيف إلا النص ما لا علاقة له به، ويصح النص دونه كاملا، ورجائي أيها القارئ العزيز أن تغض عينيك كي لا ترهقهما، وكي لا ترتدا خائبتين.

إنّ إيمانك في عدم ارتكاب فلانٍ جريمة بعينها  أو إتيانه فعلا مخلا، نابع من عدم معرفتك في امتلاك تلك القدرة في جيناته.وإن أكثر ما يصدمك في الإنسان اكتشاف مكامن علله التي  كانت محجوبة عنك وليس لإتيانه الفعل نفسه.

 

مثلا الخيانة:

مؤلمة في لحظة الاكتشاف، ويزول بعض من تلك الأثار مع البعد الزمني من لحظة الاكتشاف، لكن تظل الصدمة في  اكتشاف قدرة هذا الإنسان على ارتكاب هذا الفعل. ولهذا نسامح أو نتقبل جزئيا الفعل بعد مرور الزمن ، بينما يزال الحجاب مكشوفا، مما يخلٌ توازن العلاقات ويقيم غيرة لا تهدأ نارها، لأن الشك يحل محل الثقة.

إذا الثقة بنت الجهل في مكنون قدرات الإنسان، والشك بذرة تنبت في زوال حجاب عدم المعرفة.

___

 

الغيرة الطبيعية وليدة حب وتفردٍ، وغيرة المعاصرة، وليدة حقد وحسد في أغلبها.

 

الكاتب والقاص/حمد موسي