فكرتُ فيما أفتتح العام الجديد، ولم يستقر لي قرار، ولم يرشدني عقلي إلى عنوان أو موضوع جدير بما هو واقع، حسب المساحة المتاحة للبوح، واستفتيت قلبي حتى أهداني أن أكتب إليك.

في العام المنصرم كتبت عني وعنك، كتبت عن فلسفتي في الحب والغيرة، وعن تساؤلاتك النسوية حينا، والمنطقية أيضا،  ولو لا الكتابة والتواصل معك عبر أثيرنا لوجدتني زائرا أو رقما في سجلات مديرة مكتب الطبيب النفسيّ، أو تائها وهائما على رصيف من أرصفة شوارعنا الضيقة بنا والفسيحة بما تحمله من هموم وأحزان العامة .. ففي الكتابة عنا تعالجت وتداويت، فيما لم يكن يجدي التداوي منه إلا بالحب.

حبيبتي أمل:

سأقص عليك اليوم وأحدثك عن مشهد أو قصة تعلقت في تلابيب ذاكرتي، منذ أن اختطفت بصري، وها أنا أتخلص منها عبر أثيرنا.

----

تسرب الليل زاحفا ومغطيا بسواده معالم النهار، وبدأت مظاهره تتساقط كمطر خريفي على وجوه البشر، وزادت ملامح البائسين بؤسا ليليا إلى بؤس الحياة، فإن الليل يأتي مرتديا رداء الأحزان ...

وجلست مع صديق على كرسي خشبي متهالك بشارع مزدحم، ننتظر المصلح/ ميكانيكي السيارات، وبهوامش الشارع الضيق تتواجد سيارات مركونة ينتظر ملّاكها مثلنا دورا لدى الميكانيكي. السيارات المركونة تشكل طيفا لكل ما جادت به بطون المصانع الغربية، من ألمانية، وأمريكية وفرنسية.

صافرات المركبات لا تتوقف، ويتعالى صفيرها بحسب النوع والموديل ويختلف صراخها أيضا حسب جودة المصنع المنتج، كما تختلف آهات و آلام البشر حسب ما يتعرضون له من الألم والهموم.

ينزل شاب من سيارته مهددا، ملوحا بكلتا يديه، ويقول: هذا طريق عامُ وليس جراج سيارات وصيانة، أفسحوا لنا الطريق، ومن أخرى يترجل شيخ هرمٌ يصب غضبه على سائق تاكسي وقف للعميل، وصاحب التاكسي ينادي بأعلى صوته لسائق ميني باصٍ نزل من سيارته ليشتري حزمة قاتٍ ...

وفي مقابل هذا المنظر، امرأة يراها الناظر  محدوبة ظهرها، وإن أمعن النظر أيقن أنها تحمل على ظهرها رضيعا، تنتقل بين السيارات مستقلة الزحام المروري، لتعرض بضاعتها وتتوسل إليهم ليشتروا منها، بضاعتها المكونة من فول سوداني ولوز، وبضع حلويات ...

وصبية لم يعبروا  الرابعة والخامسة من عمرهم يتفننون بأساليب التسول، ومن وقع في شراكهم لا ينفك إلا عبر تقديم قربان، وإن كان شق تمرة.

__

وهناك في زاوية من بين تلك الهوامش/ الأزقة امرأة مسنة تجلس أمام فرشة/ بسطة خضارٍ وفواكه، وتلبس رداء صوفيا زاهدا، وبقربها يرقد طفلٌ يتوسد حجرا صغيرا، وعليه خرقة من ساريّ عفري، ومن صناعة هندية/ صينية، ينام في ملكوت الله .. للناظر إليهم يتجسد له الفقر والعوز في مرآهم، ويتمثل له بؤس الحياة، وضيق العيش الذين هم فيه غالبون.

إن الفقر يا حبيبتي: حرمان الإنسان من ذاته، وسلطان قاهر جاثم على عقله، يُشغله عن الحياة وما فيها في البحث عن خبزٍ  حافٍ .. إذا خلت البطون من رغيف أشغلت صاحبها في نفسه، لا يبصر ما حوله.

هز صوت راعد كالبرق الأجواء، واخترق سَمعَ الصبي النائم المؤَمّن في أحضان وأمان الله، ارتعد الصغير، فذعر، واتجه إلى حضن جدته المفترشة الأرض دون اللحاف، يحتمي بها .. أسندت رأسه الصغير إلى صدرها، وقبلته وقالت:-

نم يا ولدي .. لا تخف، هذه صدى أصوات بطونٍ ممتلئة، تفرغ غازات ترفها رعدا، لتعيد ملئها بأخرى.

نم يا حبيبي، ولا تخف .. إن البطون إذا شبعت وامتلأ جوفها، أفقدت العقل صوابه واتزانه، ويتحول حاملها إلى حيوانٍ.

إن النعاج بين المراعي في مواسم المطر تفسد مرعاها  بعدما تمتلئ معدتها بالرفث والدوس عليه وتنزعها من جذرها لأنها تصاب بجنون الشبع/النعمة، وهي تفرق عن الإنسان  في أنها لا تدرك وتعلم أن هناك مواسم جفاف وجذب يعقب مواسم الأمطار والنعم.

الإنسان يا ولدي يصبح كالبهيم، إن غيّب عقله الذي يتمايز به عن سائر المخلوقات، ومن أهم الأسباب المؤهلة إلى الحيوانية، البطون الممتلئة بلا ضمير. فتعم فوضى غازات تلك البطون المترفة لأن هذه البطون الممتلئة تصدر أصواتا وترتعد شبعا مثلما تفعل البطون الخاوية أنينا .. سكتت الجدة برهة تأخذ نفسا ملؤه الخوف والحزن.

نظر الطفل الصغير بعينين ذابلتين والمكحلة بالكرى.. فعانقها محاطا رقبتها بيديه المرتعشتين، فنام بمأمن .. وكأنه فهم حوارات جدته مع نفسها.

بينما كنت غارقا في التفكير  بمأساة الفقراء وعالمهم المتهالك، إذا بصوت صادر من عجلات  - التي داست على فرامله إما قدمٌ متوترة، أو خلف مِقودها نفسٌ تهوى سرقة انتباه المارة - يخترق سمعي ويفقني من غيبوبتي، صوّب الجالسون والواقفون والمارون أبصارهم اتجاه الصوت .. إنها سيارة  Hard top v8  موديل 2021، دخل الحاضرون في لحظات ترقب وانتظار لإشباع حاجة الفضول ولمعرفة من فيها، تشخصت الأبصار، وتطاولت الرقاب، قال أحدنا إنها فتاة، وقال الآخر هذا النوع رجالي من المركبات، وكيف لفتاة أن تقوها بهذه الطريقة الرعناء.

فتحت باب السيارة  ومكثت دقيقة إلا ثواني معدودة قبل أن تمد رجلها كاشفة عن ساقها، الذي تظهر عليه ما أبدته من اعتناء به .. إن قطرة ماء تصيبه تنساب بلا مشقة إلى الأرض كزجاج أحسنت ربة البيت تنظيفه. (قالها صديقي)

وثبتْ من سيارتها، قاصدة ابداء رشاقة جسدها المنحوت وخفته، ومظهرة طاقة شبابها المقبل إلى المراهقة، فقلّبت بين أصابعها – التي لم تمسس به إلا أطيب ما في الحياة – المفتاح الذكيSmart Key  وهي مدبرة، ضغطت بالمفتاح، وأصدرت السيارة صوتا عصفوريا.

 يهمس صديقي غير مصدقا: صبية صغيرة! 

وقلتُ: جميلة وثرية.

داعبت عيون الجالسين شعرها القصير، البادي ما أولته من اهتمام وما أسرفت به من مال وما صرفته من وقت وجهد قبل أن تغادر غرفتها، وزاد نسيم الهوى البحري شعرها سحرا في انعكاس ضوء متسرب من المغيب .. فلم تبالٍ بالعيون الحالمة والهمسات المنبعثة من الشفاه الحالمة.

تمايلت في مشيتها تاركة لخصرها حرية التمايل، في مشيتها يبدو التوتر، لكن قامتها الرواندية – الكيغالية زانته بجمال يخطف القلب.

خطفت انتباه الجميع بالرصيف، المتسول، والفقير والمصلح الذي خاطب صديقه، مشيرا إلى خصرها، قائلا:  انظر، خصرها يحاكي  (body rol في مركبتها، يتحكم جذعها في دوران جسمها كما يتحكم body roll  في دوران جسم المركبة حول محورها الطوليّ، وخاصة في المنعطفات الخطيرة.

ورد عليه صديقه: إنها ... إنها مجرد هونداي، تبدو أكثر مما هي بالحقيقة.

____

 

تورات خلف باب العمارة، وصديق الميكانيكي يكاد ينطق آخر حرف من جملته.

وكزني صديقي من الكتف وقال: ما هذه السيارة الفارهة، أرأيت هاتفها، صغيرة تقود هذه السيارة وأحدث تلفون  iphone, ونحن كل شهر ندفع للمصلح حتى يصلح عطلا جديدا بمركبتنا و ...

قاطعته: إنها جميلة تشبه ظبية برية في صحراء دنكاليا، محظوظ من سينال قلبها.

ابتسم صديقي وابتسمتُ، لابتسامته

أطلت إلينا من شرفة الشقة، بُعيْد دقائق من اختفائها .. تجولتْ بنظرها بحرية على وسع بصرها، دون أن يسرق عابر طريق كحل عينيها.

سرقتْ وقتا المتواجدين بهوامش الرصيف إلا هو، لم يكن متواجدا إلا بجسده، أشغله الجوال – أو يقدم حسابا عاطفيا للبعيد كما وصف غيابه صديقي – عما حوله من صفير السيارات والزحام، إنه مغيب بفعل سلطان ما، أكان سلطان قلبٍ أو همٍ يسارعه.

تناهي إلى سمعي همسُ آتٍ من الخلف، من روحٍ مرهقة ومتعبة، التفتُ صوب الهمس، فإذا بي أرى عجوز يفترش التراب يستند  إلى عمود الإنارة، وعيناه معلقتان بالشرفة وترمي شررا .. ويردد هذه الكلمات:-

 

الكاتب والقاص/

حمد موسي