سأحدثك اليوم عن رجلٍ من حارتنا، رجلا حدثتك عنه كثيرا في لقاءاتنا، ورجلٌ أثار غَيرتك لتوارد ذكره على لساني كلما تحدثنا عن طفولتي، رجل أدين له بالكثير الكثير بما أنا عليه اليوم .. رجل سألتني عنه يوما: «لماذا تبرق عيناي وأنا أتحدث عنه؟!» وأجبتك حينها: «لأنه ملاك حارسٌ للحارة»

عن رجلٍ لا يحب الظلم

----

عندما تتربى في ظل/ كنف/ وسط عائلة، تقدس الهدوء والسلام النفسي والمجتمعي، عائلة لا يرتفع فيها صوتٌ، ولا يعلو على صوت الصمت صوتٌ، عليك وبالتبعية أن تكون مثلهم، لتكون جديرا بالانتماء لهذه العائلة، وإلا يراك ويصفك المجتمع بالشذوذ وعدك غريبا بالعائلة ومن الأسرة.

لكن .. لم تحتم عليّ أو أتطبع بثيمة أسرتي، فكنت كلحمة تمردت على القدر، ولم تستوي طهيا .. تجدني أينما المشاكل والمصائب الصبيانية، كثير الحركة، سريع في غضبه وفي تقلبه المزاجي، لا أراعي في ذلك مكانة والدي الاجتماعية الوقورة، ولا سمة شيدوا بها بنيان هذا البيت العتيق.

في حارتنا الموسوم أهلها بالتمرد، ، كان هناك رجل ذكره على ألسنة الصغار والكبار، رجالا ونساء، يحبه البعض ويبغضه الآخرون، وأنا وقعتُ في حبه وتبجيله صغيرا وزاد حبه كلما نمى عقلي وكبرت نفسي، رافقته في الحارة كثيرا، وبعض السفريات، وجالسني وجالسته وأغلبها كانت في حضرة الأسطورة (عبدالله عبدالقادر عباس) وحينا آخر أتتبع أثره في سلوكه وأسلوب حياته، فتطبعت به.

أحبني مثلما أحبته، وأنا في عمر أصغر أبنائه، وإن افتعلتُ مشكلة في الحارة هرولت إليه لعلمي أنه الوحيد الذي سينقذني من بطش كبار الحارة .. وفي حارتنا عرف اجتماعيّ، لا يحيد عنه الصغار قبل الكبار.

يقول العرف في حارتنا: «الكبار على الصواب دائما، وعلى الصغار الطاعة فيما أمروه به، وإن عصى فالعقاب جزاء جريرته»

وقاعدة عرفية ثانية: «الخطأ على من سبقته يده من لسانه» و انطلاقا منها لا يسأل عن المخطئ، بل كل الأولوية على من سبقته اليد / من مد يده أولا، ونتيجة لهذه القاعدة قد يضيع الحق ويغلب الباطل».

القاعدة الثالثة: « إياك أن تتعرض للأنثى بالسب أو الشتم، في الأماكن العامة، مهما كان المسوّغ والدافع».

فإن أي تجاوز لهذه القواعد العرفية، يجعلك أمام لعنات الكبار، وتنافر المجتمع.

في احدى الجلسات قال لي (عمي حسين) ثلاثٌ لا تأتهم ولو فيهم روحك:-

1-الكذب 

2-الخيانة

3-تقع في عشق الظلم، وإن كان آتيه من أهلك.

وقال أيضا لا تفرط بثلاث:-

1-حريتك لا تقايضها بمنصب ولا سلطة، إن الثبات لا يتطلب كثرة علم ولا مال، فقط يتطلب قدراتك في توقع النتائج.

2-صديقٍ أمين في نصحه، وكريم في مشاعره.

3-الوطن، وإن تعسر العيش وضاق بك الحال.

ثم تنهد قليلا، وسحب دخان سيجارته، وحبسه بين جنبات روحه لحظات، قبل أن ينفث الدخان غارقا بتنهدات نفسٍ مليئة ومثخنة بجروح الزمن، وأتبع قائلا :-

الدفاع عن النفس مشروع في جميع الحالات، وأول حالة ينبغي أن تكون حريصا عليها، هو أن تدافع عن الضعيف، لأنه حصنك الأول، وإذا وجدت في نفسك ترددا في الدفاع عما يصيب الضعيف من ظلم وتسلط، فهي بداية مداهنة وقبول مبدئي للظلم.

أخرج من جيبه ولاعة، وفي يده سيجارته الأولى مازال دخانها صاعدا بين أصابعه، فأعادها حيث كانت، وأردف قائلا:-

كل الأعراف يا ابني قواعد تقييدية وأغلبها لصالح الواضع، وعليك أن تبحث فيما وراء القواعد والأعراف، لا تسلم عقلك لأي حدث تاريخي دون النظر في حيثياته وأسسه التي أقيم عليه. 

وسألته بفضول:

ما هي أكثر لحظة مررت بها أو ظرف وأحسست به ضعفا أعجزك، وأصابك منها ندبٌ و ندمُ؟ سألته وأنا أنتظر حدث جلل، وهو الذي بنظري قبضاي لا يخيفه أمرٌ ولا يقف أمام رغبته رادٌّ.

سكت قليلا، وقال: في بداية شابه أصابته صبابة، أغرم بفتاة، فأعطته قلبها كاملا، وذات يوم مشمس وسخين، جاءتني واجمة الوجه، حزينة القلب، منزوعة الروح، فاكتسى جمالها بوشاح أبيض يميل إلى الرمادية، وعلمتُ من النظرة الأولى ومن بياض وجهها مدى الحزن الجاثم في قلبها.

 اقتصدتْ في كلماتها، وأصابتني في قلبي، مثلها، وتوقفت نبضاته برهة ولبس الأبيض في توقفه.

حبيبي!

 سأقولها للمرة الأخيرة، وهذا ما حكمه العرف وقرر، إن لتقاليدنا كلمة الفصل فيما نحب ونكره، وفي اعتبارهم <حماة التقاليد> لا وجود للمشاعر والعاطفة. 

 سأتزوج ذاك الغريب عني وعن قلبي، الذي لا أعلم عن أمره خيرا أوشرا، وهو لا يعرف عن شأني شيئا سوى أنني ملكه، والمادة التي خلقتْ لأجل اشباع رغباته، بحسب العرف! أنا أبسومته | Absuma – هو ابن خالي وأنا بنت عمته – له حق القرار والتصرف في قلبي كما يهوى.

 سكن هدير قلبها ثواني، وأمواج أنفاسها تتصاعد لهيبا، مترجمة سخين روحها واحتراق القلب ..وبعد صمتٍ سكن فيه الهدير قالت: الشيء الوحيد في مصيبتي، بأني سأسجن مع رجل  مقبل على الحياة لا مدبر هرم كصديقتي (دابسية)، التي تحوّلت من طفلة ترعى جمالها إلى راعية – في السابعة عشر من عمرها – مسنٍ أقعده الكِبر  لتسكن دار العجزة، وفي الثامنة عشر أصبحت أمّا لطفل، زادها حملاً.

 أتبعت تنهدها   بهمس مشبع بندوب الروح، وفي عينيها رجاء يطالبني بالكلام، ولم تدرك أن لساني انعقد وفقد وظيفة النطق .. إنه لأمر قاس وفظيع أن يلزمك الصمت ولديك الكثير للبوح.

 إن النهاية السعيدة لقصتنا لم أحلم بها ولم تراود مخيالي يوما، يكفني أن نصيبي من الحب كان مع شخص مثلك، نقي السريرة يعاف الظلم. (قالت).

مررنا بلحظات صمتٍ ..  في عينيها أمنية بأن أمد إليها يدي وأمسك معصمها، وأقول وإن كذباً، «هيا حبيبتي نواجه هذا العرف، ونتمرد على نواميس مجتمع غارق بالتعاسة، نقف صامدين حتى النهاية، وإن كانت النهاية حزينة، نموت كأبطال مدافعين عن قلبينا».

 لكن، يا صديقي | Mon amis: 

كسرتُ  ذلك القلب باستسلامي وخضوعي إتباعا للعرف .. وما زالت نظرة عينيها تخترق هدوئي كلما خلوت بنفسي، أنا رجل شديد البأس لا يخيفني في الحق عواقب، ولكن يومها عجزت من أن أدافع عن حبي لأن قوة التقاليد في مخيالي كانت مثل ارتفاع جبل عالٍ لا تطاله أياد العابثين، ولأن رسوخ العرف في معتقدي كان أقوى من رسوخ الحب.

فيزيد  عمي |صديقي قائلا:

«هذا أول ظلم تعرضت له في الحياة؛ إن وقع الظلم الأول على النفس كوقع الحب الأول، وكلاهما يفتحان أبوابا نحو عوالم كانت خفية، الأول يحل كالليل حاجبا بظلمته الأمل وجاثما على الصدور بأحزانه والثاني كالنهار يأتي كاشفا منابت السعادة والفرح، وزارعا بذور الأمل».

 ولهذا قلتُ يا ابني أن «الأعراف قواعد تقييدية وأغلبها لصالح الواضع، تستهدف العقل الجمعي للمجتمع من أجل التمكن، وعليك يا صديقي أن تبحث فيما وراء القواعد والأعراف، لا تسلم عقلك لأي حدث تاريخي دون النظر في حيثياته وأسسه التي أقيم عليه».

يتبع ...

 

الكاتب والقاص /

حمد موسي