ضحكات تتعالى، وقهقهات تنطلق من حناجر جموع حضرتْ... وأحاديث جانبية في تلك الزاوية، وأصوات ممزوجة بالفرح تعلو من الجهة المقابلة،  هذا يحضن صديقه، وآخر يمازح جاره بالمقعد .. بينما صوت (عبدالله لي) يصدح حينا، يعقبه طلحة، فسبقه جوهري، وشيخ أحمد.

لا أحد أعار أذنيه لتلك الحناجر الماسية أو ينصت للرسائل التي يبثها الفنانون، كلٌ مشغول بذاته أو بصديقه الرفيق؛ إلا هي. هم سكارى بنشوة أفراحهم، غارقون إلى عقولهم .. فهي وحيدة في سكونها، خاملة نظراتها، يكتسي وجهها لباس الحزن،  مستغرقة في رسائل مضى عليها العقود ولم تجد آذان تصغي وأفئدة تستوعب .. تسربت الأغاني بكلماتها وألحانها  إلى روحها، فآلمتها.

تختلس إلى الحضور، النظرات .. يسرها أنهم  غارقون بالأفراح، ويحزنها أنهم متعلقون بالقشور، ذائبون بمظاهر الوجود، الساعات، والملابس؛ والأحذية أولوية الأوليات، في مقدمة الاهتمامات.

لم ينتبه لها أو يتنبه لمظهرها الكئيب الحزين إلا هو .. وحيدة في الركن وعلى وجهها أصناف من آثار الدهر، وعلامات البؤس، وألوان من أغبرة الخيبات وترسبات من مآسي الزمن وتجاعيد توحي تنكر الأحبة.

اقترب منها .. حياها.

 ردت وعلى وجهها ابتسامة فاترة، ابتسامة كشفت تجاعيد وجهها كأنها في عمر ما بعد اليأس، وهي التي تزحف  نحو العقد الرابع.. جمالها فتّان في ابتسامتها سحر وسخرية في الآن، وعيناها لم تزل سماوية البؤبؤتين، رغم أن الحزن أصابها ببعض البياض.

 الكل فرح مسرور مشغول .. (قالها، وهو يمعن النظر إلى وجهها).

 في عينيك دمعة.. وفي شفتيك ابتسامة فاترة وساخرة تبدين للنظر خفيفة الظل، ولكن للناظر الفاحص ثقيلة الهيئة وعلى أكتافك أرتال من الهم والغم.. قال محاولا استدراجها.

 استقبلتْ مفاتحته بابتسامة أخرى فاترة

 لماذا ابتسامتك آخذة إلى الحزن؟(قال)

 ابتسامتي ..؟ 

هل تراني مبتسمة! (قالت بتهكمْ).

وأردفت: نسيت يا ولدي  الفرق بينهما  ... بين الحزن والفرح

 وهل هناك مسافة بينهما أم أنهما متشابهان أو متماثلان؟

 أدارت عينيها في الغرفة، يرتد بصرها إليها بثانية لضيق الغرفة، بلا أثاث، خاوية على نفسها، لا تسري بين جدرانها الحياة سوى مراتٍ قليلة، الليلة من الليالي القليلة.

 ثم أخذتْ نفساً .. تنهدت.

 الفرح كالحزن، سيان. نكتنز الفرح، لنتداوى به عندما يحل بنا الحزن، والحزن داء عضال يصيبنا بمتلازمة تسمى «الابتسامة»، فنضحك لنواري به ضجيج النفس اليائسة.

ثم، زادتْ: يا ولدي: مكتوب بأقدارنا الحب، وفي الحب نفقد ذواتنا، فنذوب في الآخر .. هذا الذوبان يعقبه إماّ سعادة يعكر صفوها الحزن أحيانا، أو تعاسة لا تخترق جدرانه السعادة إلاّ لمما.

تثاءبَ ..

 أتقصدين بكلامك هذا «أن ما يصيبنا من الأحزان وكدر الحياة أساسه من الحب؟!» 

أمالتْ رأسها إيماء؛ وقالت: نعم يا ولدي.

«احرص يا بني، أن ما قادك إلى الحب يوما ما، هو نفسه، الذي سيحملك إلى الكره .. كن عاقلا في الحب، ليكون كرهك رهين العقل».

 

 

بقلم / الكاتب والقاص

 حمد موسي