في حي وحلي دابا بأعالي العاصمة  جيبوتي قرب مسجد عمر بن الخطاب، كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة فجرا والناس نيام والأضواء خافتة، في منزل أرضي واسع صبيتان تلفهما مشاعر مختلطة _ لهفة ، اشتياق و بكاء.، وكل ما يشغلهما هو حال والدهما فهو  كل شيئ في حياتهما، وإذا حدث له مكروه، ستنتهي معه كل معاني الدلال وكل شئ جميل تعودتا عليها، هذا اليوم تعرض والدهما لحادث سير ولايعرفان عنه شيئا فهو بعيد عنهما. ووضعه الصحي ليس على ما يرام فهو راقد وفاقد للوعي، يقبع في إحدى غرف العمليات، بين الحياة والموت. ذكرت إحدى الفتاتين أختها بوالدهما عندما يدخل البيت كيف يحملهما ويحضنهما ويقبلهما ويفعل هذا منذ اثني عشر عاما وهو عمرهما دون أن ينسى أو يمل يفعل هذا قبل أن يفعل اي  شيء آخر . وهما تنتظرانه طوال اليوم لا تعرفان الأناقة إلا في عينيه ، ولا تكتسبان الثقة إلا من نظرة عينيه ، ولا تستمدان السعادة الا من خلال النظر إلى عينيه فتعودتا أن تلجآ اليه ليجيب لهم على الاسئلة التي تكبرهم عمرا من خلال عدسته وايماءاته ففي نظراته اجابات لكل اسئلتهما،نظرته نظرة ضرغام و هو شديد التأمل، وكأن مباهج الحياة اتفقت كي تبرم عقد  المكوث نصب عينيه وترفرف لهما مثل علم الأمان وكأنه وطن يحتمى به. كان أرستقراطيا في كل شيء وإلى أبعد الحدود حتى في حالة تأملاته وانهزامه أرستقراطي بمعنى الكلمة .. حين نفقد الأمل وننام متوسدين خيباتنا ويبقى أملنا ضعيفا علينا أن نزداد اصرارا وتمسكا بالأمل، علنا نرى بريقه وعله يأتي ويسعدنا وتعود المياه إلى مجاريها فها هي رحمات ربنا تأتي على قدر إيماننا به ، عندما خرج من غرفة العناية المركزة إلى غرفته فتح عينيه وهو يئن ألما لكنه الألم الأكبر أنه يحترق شوقا لبناته فلذات كبده ، بالرغم من ألمه الكبير إلا أنه لا يحس بذلك الوجع و لا يأبه به، وهمه الوحيد ابنتاه ،يفكر فيهما ويشتاق إليهما لحظة فراقه عنهما ولحظة تواجده معهما يداعبهما ويلعب معهما حتى إذا كان مرهقا ومتعبا.. وجاءتهم البشرى بعد اسبوع، الفرحة تغمرهما كانتا تنتظران مجيئه إلى البيت فعافت اعينهما النوم  ، تنتظران وقت خروجه، وتترقبان الساعة التي حددها الطبيب  لمغادرته المشفى، مذ سمعتا هذا الخبر وأعينهما على الساعة المعلقة على الحائط ، راودتهما تساؤلات كثيرة تحدث الرعب والضجيج وتنزل كالصاعقة على عقليهما الصغيرين. ترى كيف هو الآن وهل هو قادر على مداعبتهما واللعب معهما في الأرجوحة كما كان يفعل في السابق وهل سيرافقهما إلى البقالة ويتركهما تختاران ما تريدان كما كان يفعل سابقا ؟ لم ينم الليل  من فرط شوقه ولهفته وكأن النوم سيفسد نشوة شوقه ولقائه بابنتيه عند الساعة العاشرة قرعت طبول الفرح وتراقصت القلوب ناسية الأوجاع والفواجع والأحزان ،، حتى الجبس الملصق في يده نسوه تهلل وجهه حينما أطلتا من الباب ،، وقفزتا صوب حضنه فتح لهما ذراعيه وكأنه رجل آلي ، احتضنهما بشدة. حتى عقارب الساعة  كانت واقفة كي لا تفسد عليهم هذه اللحظه بدأتا ترشقانه بوابل من الأسئلة التي لا تنقطع ، فتارة تسألانه - وتارة تعاتبانه - وتارة ثالثة تشتكيان من هذا وذاك ، وهو يصغى إليهما وكأنهما تحادثان شيخ القبيلة، وهو يبتسم حينا، ويعبس حينا وينظر إليهم باندهاش حينا آخر.... هكذا تمر اللحظات العصببة، فيسخر الله لنا ما شاء أن يسخر ومن شاء، ونتناسى كل ما عشناه من المرارة بلمح البصر فالعسر لا يدوم مرت السويعات والأيام وهو يسترجع عافيته شيئا فشيئا،يغدق عليهما ويغمرهما من بحر حبه وعطفه وجعل منهما أميرتين على عرش قلبه، و يثق بهما و في أي قرار يأخذانه ، ويحتويهما ويحثهما ويرشدهما إلى الصواب ولسان حالهما يقول «لأنك أبي فأنت حبنا النابض ونحن ابنتاك ومهجتك ومدللتاك الصغيرتان .» هذه الجملة شعار اتخذتاه في حياتيهما استعاد والدهما صحته لكنهما لا تريدان أن تتذكرا نظرات العطف والإشفاق التي كانت بادية على وجوه البعض ولا تظهران نظرات البؤس واليأس في أعينهما الحزينة لكن هذه هي الحقيقة :  والدهما   أضحى طريح الفراش . لكن ذلك لم يمنع أن يكون مربيا ومرشدا وهاديا لهما لتكبرا وتكونا مثالا في الأدب والنجاح والتميز.  بقلم/  مريم شريف