في صباح يومٍ من أيام جيبوتي في شهر يونيو، خانق برطوبته،  يكتم الأنفاس فلا نسمة هواءٍ تسرق الخطى إلى الوجوه الماطرة.. أستيقظ، فتقوم النفس بما تعودتْ عليه، إفطار وفنجان قهوة، وقراءة بِضع صفحات من الكتاب، وحمامٌ، لبس وعطر، فهروب إلى الشارع، بحثا عن مواصلاتٍ ...

اليوم، ظلتْ عبارة من رواية (كافكا الخاطب الأبديّ – جاكلين دوفال) معلّقة بجدران تفكيري، أحاول فهم حيثياتها، ولماذا صاغها بهذا الأسلوب، وكيف توصل إلى هذا الاستنتاج:-

«لا أستطيع أن أحب، إلا إذا رفعت موضوع حبي عاليا جدا، بحيث يصير متعذرا عليّ بلوغه»

بينما أنا غارقٌ في غموض رسالة كافكا إلى ماكس برود، قفزت عبارةٌ أعرّف بها، عن نفسي بحسابي بالوتساب:-

«يكون الحب مستحيلاً عندما يصبح كلّ شيءٍ ممكناً».

قد ضمّنتُ هذه العبارة رسالة كتبتها قبل عشر سنوات إلى حبيبة متخيّلة، رسمتُ ملامح جمالها بما يرضي غروريَ الذكوري، ومن ثم رفضتُ حبها، حيث لم يعد يُرضي هذا الغرور.

تأملتُ في الرابط بين رسالة كافكا إلى صديقه، ورسالتي إلى حبيبتي المجهولة؛ فاهتديتُ إلى: 

أنّ الحب يأبى أن يكون في السهول وعلى التلال المنخفضة، بل في قمم الأمور وأعاليها، شامخاً في تواجده الروحي-العاطفيّ، سامٍ في قيمه..

----

المشهد الأول

قاطع حبل توارد أفكاري وتفكيري، مشهد زوجان نزلا من السيارة، فاتجها نحو مقر عملهما بخطواتٍ تتسابقْ، زوجة تسبق زوجها، وزوجٌ يهرول خلفها.. قبل أن يغيبا عن مدّ بصري بما يقارب مترا، افترقاْ؛ دخلتْ الزوجة مقر عملها، والزوج واصل خطواتها المتتابع السريعة. لم تودعه، وهو لم يرفع عينه إليها، كأنهما لم يخرجا معاً، ولا يربط رابط ودٍ بينهم.

هذا المشهد طغى على ما سبقني إليه من تفكير، فيما قاله كافكا عن الحب وفي الحب، وما قلته أنا، وانتزعني من محاولة إيجاد خيطٍ، أو مبرر لنا؛ فتساءلتٌ:

∆ عن مصير الأطفال؛ يخرج أبواه صباحا ويعودان آخر النهار، ولا يكادون يرونهم إلا غدوا وعشيا، كعابري سبيل في حياتهم؟

∆ التربية؟! ما مفهوم التربية لديهم، هل هي مجرد توفير مأكل وملبس ومشرب، كالبهيم يُعلفون، ثم يُتركون لمصيرهم؟

∆ ماذا ننتظر منهم، حين يكبرون؟

إن الفساد المجتمعي، الذي نعيشه اليوم أساسه في اختفاء دور الأسرة، وغياب دور أمٍ قيل في مدحها، بأنها مدرسة التربية، تُعدّ مجتمعا طيّب العرق والخلق سليم الطبع .. إن الاعتماد على المربية في التربية، يصنع منها أمّاً بديلة للطفل، فهي محور الكون لديه، ومن ثم تغييرها لأي سببٍ يعرض الأطفال لهزات عاطفية ما يُخلف حالة نفسية قد تؤثر في عدم الاستقرار العاطفي..  يتعلق كل فترة بمربية مختلفة شكلاً ومزاجاً وطريقة تصرفٍ وتعامل.

----

المشهد الآخر

لم يكن المشهد الأول قد أوما خلّفه من أسئلة وحيرة مازالت تروّض عقلي وتحثه على الأجوبة، فإذا بشابين وفتاة دخلوا إلى مطعم، فجلسوا على طاولة تجاورني، في أحاديثهم عباراتٌ خادشة للحياء العامة والفطرة السليمة، يضحكون بصوت عالٍ، وأنا رجلٌ تزعجه الضحكة العالية من فتاة، وتستفزه مناظر الفساد في كل شيء، وخاصة في الخلق والقيم ..

أحد الشباب خرج، وبعد دقيقة رجع وهو حامل أحزمة قاتٍ أثيوبيٍ، قيمة حزمة منه تكلف راتب شهرٍ كامل ٍ لحارسٍ (بواب)، ثم قال للفتاة: ستشبعين حتى الأذنين اليوم. ضحك وضحكت بصوت مرتفع.

الفتاة، بأنفٍ مغربية، وبوجه دائريٍ، وشعر قمحيّ، تبدو من ملامحها سيماء الثراء والنعمة، وجوالها iPhone 13 pro  يفصح عن أي طبقة في المجتمع، وكذا أيضا يفعل مفتاح سيارةٍ وضعته أمامها على الطاولة.

أما الشابان، ليس عليهم من أثر الغنى سوى ما يميزهم عن الفقير، وعلى وجوههم تعثر بعضا من الكد ونقص اليد، في كلماتهم الكثيرُ من الحواري الضيقة.

هذا المشهد استدعى الأول، فأعاده إلى العقل:-

 هذا ما تصنعه تربية المربية. (قلتُ) 

 

بقلم الكاتب والقاص حمد موسي