أقبلتْ وصحن السينية، فضي اللون؛ يرقص على راحة يدها الناعمة، بنفس درجة وزاوية تمايل خصرها، تتباطأ في خطواتها كلما تآكلت المسافة بيننا ، تَجُرِيّة بتسريحة شعرها.. أقبلتْ هي ويُسبقها غنجها إلى قلبي، وسقط دلال مشيتها في روحي سقوط قطرات مطرٍ بموسٍم خريفي بعذ جذب السنين. 

انحنت وعلى ثغرها ابتسامة، بانت على خديها غمازاتٌ زادت وجهها الباسم سحرا، بين انحناءها وابتسامتها حضارة من التاريخ لم تُكتشف، وجمال لم يطاله خيال الشعراء .. شفتاها تلمع وكأنها ثمار الكرز الناضج تعكس ضوء الصباح عليه.

وضعتْ فنجان قهوتي، وأدبرتْ .. وفي إدبارها قصيدةْ وقعتْ من دفاتر نزار* ولم يقرأها بشريّ، وفجأة؛ غيرتْ مسارها، وفي استدارتها فتنة تثير حروباً بين قبائل المشاعر؛ فأقبلت باسمة وسألتني:-

ماذا بينك وبينها؟!

أجبتها، والدهشة تغرق كلماتي، من تقصدين يا ..،  أردتُ أن أقول لها يا قمر، واستدركت أنّني لا أستصيغ وصف الجمال بما لا أدرك كنهه، ونحن البشر ماذا ندرك  من القمر سوى ضوءٍ يصل إلينا حتى نجعله مضرب مثل للجمال!

 لم أر منذ أنْ عملتُ بهذا المقهى أحدا يعتني بها، أنت تحتضنها بين شفتيك، وتعطيها من قلبك قبلة كعاشقٍ احتواه الموت، القبلة الأخيرة التي لا بعدها حياة. (قالت).

 (وابتلعتْ بعضا الكلمات كمن يخشى العواقب).

عثرتُ في نظراتها المبعثرة، تلك الكلمات المحذوفة، وفي عينيها غيرةٌ أنثىً فقدتْ الكثير الكثير، تغار من اللاتي يرتدنَ  يومياّ، صباح مساء، ويصرفن وكأنّهنّ يمتلكن آبارٌ لا يخشين عليه من يباس، هي أثنىً خدشتها الحياة بالفقر وبَصَمتْ على روحها بالشقاء، وفي أغوار روحها عتابٍ وأملْ، كأنها تقول: لستُ جهاز قهوةً وآلي -تعاتبني ومن مثلي على برودةٍ أُظهرها ونظهرها حين أطلبها ونطلبها لتكتب طلباً- لا ابتسامة ولا سلامٍ تقدير أيها الرجل. (تقول عيناها العسليتان).

والأمل الخجول في نظراتها يطالب:- أن تُعيد الحياة إليها شيئاً مما فقدته في معركة البقاء، في حافل بالملهيات، وطعام القطط والكلاب فيه بأرفف المولات، ويطغي فيه التنافس علي شراء جديد التكنولوجيا للتباهي، ويضج بافتقار صارخ إلى مكتبةٍ ويتميز بندرة اقامة ندوات  علمية أو ثقافية فيه ، واقع لا مكان للفقير به إلا لخدمة السادة.

صدّقتُ أنا عينيها المكسوتين باليأس ولم أقل ... وهي فهمتْ من صمتي بأنني فهمتُها.

ذهبتْ، ثم عادت وهي تحمل قطعة (شيز كيك) وقدمتها إلي، وقالت:- مني إليكَ، لا تردني، ثم ابتسمتْ، وزادت:- 

«لم أكن متطفلة أبدا؛ فقط اهتمامك بها وحرصك على الاختلاء بها مستفز، لفتاة مثلي، فتاةٍ لم تعهد في بيتها رعاية، والمجتمع يعاملها بدونية و ...»

ابتعلت ريقاً تجمع في حلقها .. أدارتْ بصرها دائريا بالمكان، لا توجد كرسي إلا مشغولة بصاحبها، فتاة بعمرها اقتصدت بلبسها، صدرٌ يكاد عاريا من كل شيء، تلتهم قطعة حلوى، رجالٌ ونساءٌ في تيه الدنيا ماتعون؛ فأعادت بصرها ثم قالتْ:- ألبسْ ما لا يليق بي؛ البنطال الضيق، وفتحة الصدر بالقميص المفصول حتى يبرز مفاتن خصري و ... لأن المالك أراد، أبتسمُ لأنّ العملاء| المرتادون يرغبون، وحتى المشي أمشيْ كما يفرضها هو ..».

امتلأتْ حنجرتها، وانسكبتْ ماء عينها على خدها .. فأدبرتْ.

----

هَمهمتُ أنا كلماتٍ من نهاية قصة قصيرة للرائع تشيخوف (موت موظف):-

«وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه.. وعندما وصل آليا إلى المنزل استلقى على الكنبة دون أن ينزع حلته.. ومات.» 

 

بقلم الكاتب والقاص

 حمد موسي