توفي أمس في الثامن عشر من اغسطس ٢٠٢٢ في هرغيسا الأديب الصومالي الكبير محمد إبراهيم ورسمة (هدراوي) بعد حياة حافلة بالعطاء والإبداع. لم يكن هدراوي أديبًا شاعرا فحسب، ولكنه كان موسوعة علمية أديبا شاعرا فيلسوفا مؤرخا. لقد وصف ياقوت الحموي في كتابه (معجم الأدباء) أبا حيان التوحيدي بانه (فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة)، وهذا الوصف ينطبق على شاعرنا هدراوي، فإنه كان شاعرا فيلسوفا، مزج الفلسفة بالشعر، وآخى بين الحكمة (الفلسفة) والوحي (وحي الشعر)، وقدّم في شعره معان فلسفية عميقة في قالب ادبي جميل، وبصيغة سلسة عذبة تقرّبها الى أذهان الجمهور، بعد أن ازال عنها تعقيدات الفلسفة، وغموض مصطلحاتها، وتجريداتها العلمية، ونفخ فيها من روحه الشاعرية، حتى جعل المعنى الفلسفي التجريدي صورة شعرية، تنبض حياة، وتفيض جمالا، فتطرب السمع، وتغذّي العقل وتثري الروح. وهو بهذا يرتفع الى مقام الشعراء العمالقة العظام، الذين جعلوا موهبتهم الشعرية مطية لحمل افكارهم الفلسفية، مثل ابي العلاء المعري، ومحمد اقبال، وعباس العقاد، وغيرهم من العمالقة الذي حلّقوا بالشعر في سماء الفكر، ثم هبطوا به الى الأرض ماء سلسبيلا، ينهل منه الناس ويعينهم في فهم الحياة، وأسرار الكون، وخبايا النفوس.

لدينا في الصومال شعراء عمالقة في القديم والحديث، منحهم الله موهبة فذة في نظم القريض باسلوب رصين، يجمع بين جزالة اللفظ، وشرف المعنى، واشراق الاسلوب، حتى لقب الصوماليون (بأمة الشعراء) من كثرة شيوع الشعر فيهم، واعتنائهم به، ولكن ما يميّز هدراوي من بين هولاء الشعراء، أنه كان مفكرا فيلسوفا، لم يقتصر في نظمه الشعر على الاغراض التقليدية للقصيدة الصومالية، من الفخر والمدح والهجاء، ووصف مظاهر الحياة في بيئتهم القريبة، وشعر المناسبات والأحداث اليومية، وانما تجاوز بها من ذلك كله الى فضاءات أوسع، ومجالات أرحب، ومعان أعمق، تظهر من خلالها شخصيته الفكرية العميقة، التي تغوص في عمق غمار بحور المعاني، مستخرجا منها اللالي والدرر، فينظمها نظما ثم ينثرها نثرا ويبثها في وحي اشعاره فيخلق من ذلك كله باذن الله سحرا وجمالا وبيانا.

إن الأدب عند فيلسوفنا الشاعر رسالة وفكر ومبادئ وقيم، وليس تسلية ولهو كما يفهمه العوام، وفي قصيدته (سر الحياة أو جوهر الحياة) يصور بريشته الجميلة دور القلم في نهضة الامم:

 

Qalinkaa wax suureeya

Kugu sima halkaad doonto

Saaxiib kal furan weeye

Sunto fara ku hayntiisa

Weligaa ha si deynin.

Sisin iyo ku beer muufo

lyo laanta saytuunka

Ku gotomi sungaan waarta

yo nabadda seeskeeda

Samo yo ku doon heedhe

Dunidivo sinnaanteeda

 

القلم هو الذي يصوّر الحياة، ويوصلك الى الهدف الذي تريده، وهو الصاحب الذي لا يخون، فصاحبه ولا تجفه ابدا، ازرعه بالسمسم والخبز وأغصان الزيتون، وأيده بنشر السلام والعدل والمساواة. هذه هي مهمة القلم عنده؛ محاربة الجهل والفقر ونشر السلام والمساواة. ثم يعرض أديبنا لأهمية رسالة الأديب وقدسيتها:

 

Suugaantu lib maaha

Erey iyo sunnee maaha

Hugun iyo sitaad maaha

Siddi iyo I daya maaha

Sadho iyo xajin maaha

Laba saaq ku gado maaha

Waxan seylad gelin weeye

Sadi iyo dareen weeye

Bulsho saaasaheed weeye

Samaheeda mudan weeye

Sawdkeeda diga weeye

Sacabkeeda kulul weeeye

Marna baadi sooc weeye

Sahan iyo tilmaan weeye

Dhaxal soo jireen weeye

 

ليس الأدب للبيع، ولا الفاظا جوفاء، ولا ضجيجا صارخا، ولا رقصة ورياء، وإنما الأدب مشاعر جياشة، ويخدم قضايا المجتمع، حينا يكون صوت الشعب الهادر وصفعتهم القوية، وحينا يكون ممثلا لمقومات الأمة وتقاليدها وتراثها المجيد.

تلك جوهر رسالة الأديب في نظره، فالأدب عنده رسالة انسانية سامية، تتسامى عن سفاسف الامور، والأديب مرآة أمته، وخير من يمثل رسالتها وقيمها، فأخذ هذه الرسالة بحقها، ومثلها خير تمثيل، وعبّر عن آمال وطموحات ومعاناة أمته احسن تعبير، ولم يكن تعبيره عن أمته ينزل بشعره الى المستوى المحلي، والاحداث اليومية، وانما كان يرتفع به الى عنان العالمية، معبرا عن اقيم الانسانية العليا. واذا تأملت اشعاره فانك تدرك انها تدور على اعلاء المبادئ الانسانية، من تحقيق الحرية، والعدالة، والكرامة الانسانية، والمساواة، ونصرة المستضعفين، ورفض الاستعباد والاستعمار، ونبذ الكراهية والعنصرية، فشعره باختصار شعر انساني، يعبر عن تطلعات الشعوب للحرية والعدل، وهذا ما بمنح شعره الخلود، لأن الشاعر  كلما لامس في شعره وتر الروح الانسانية، والمعاني الخالدة كتب له الخلود، اما إذا دار على تسجيل المناسبات ووقائع الأحداث، كما تفعلها الصحف والجرايد اليومية، فإن هذا السعر لن يبقى، وينتهي بانتهاء تلك الأحداث،

وكان شاعرنا هدراوي -رحمة الله عليه- يدرك ذلك، فلم يشغل نفسه بتصوير اللحظة المقيدة في زمان ومكان معينين، وانما آثر ان يصور المعنى الخالد المطلق من قيود  الزمان والمكان، انه شعر انساني يجد فيها كل انسان نفسه بغض النظر عن جنسه ولونه، واذا أردنا ان نمثل لهذا الميل عنده، فيكفينا ان نشير الى قوله في قصيدته التي اسلفنا ذكرها.

 

 

‏Nin ku yidhi sinnaan mayno Adna buri sarrayntiis

 

من أنكر تساويك، فارفض تعاليه

 

هذا المعنى في شعر استاذنا محور من المحاور الاساسية، فهو بطبيعته يبغض الاستعلاء والاستعباد، ويرى الحرية هي جوهر الانسانية وسر الحياة، فلذلك تراه في اشعاره يعيد هذا المعنى ويكرره، باساليب مختلفة، وفي سياقات متعددة. وقد ظهر بغضه للاستعباد والاستبداد في المراحل الاولى من حياته، حين واجه حكم العسكر في بلاده، فشعر شاعرنا ان الكرامة الانسانية في بلده مهانة، ولم تطق نفسه الأبية للظلم والطغيان أن تجاري عبث العسكر، او تصفق لمغامرات الضباط، كما فعل كثير من زملائه، فقبضه العسكر، ورموه في الجب، زاهدين فيه، ولبث في كهف (قنسحطبري) سنين عددا.

وكان شاعرنا هدراوي يبغض التبعية الثقافية، كما يبغض التبعية السياسية، فنراه في شعره يدعو الى الاستقلال الثقافي كما يدعو الى الاستقلال السياسي، ويدعو الأمة الى التمسك بتقاليدها وتراثها، ونبذ كل محكاة للغريب، ومن احسن ما قاله في ذلك، موجها كلامه الى المرأة، عماد الاسرة وركن المجتمع، محذرا إياها من مغبة التقليد الاعمى لتقاليد غريبة عن تراثها وقيمها:

 

 

‏Gabdhayahow side waaye

‏Ilbaxnimadu saas maaha

‏Hadba suuf karkaro maaha

‏Sararaha bannee maaha

‏Qorgor sunniyahaa maaha

‏Dhabannada sibbaaq maaha

‏Sanka oo la mudo maaha

‏Sakhrad yo xashiish maaha

‏Sawir iyo riyaaq maaha

‏Filin yo sarcaad maaha

‏Saxan reer galbeed maaha

‏Kaba sookal dheer maaha

‏Suuriyo durduro maaha

‏Oof silloon ku daya maaha

‏Wax sawaaban nogo maaha

‏Sinta yo lafaha duudka

‏Seddex goor jajabi maaha

‏Dhaqankaada saydh maaha

‏Soomaali did maaha

 

 

ما بالكن أيها السيدات ! ليست الحضارة تعرية الضلوع، ولا تزجية الحواجب، ولا صبغ الخدود، ولا ثقب الأنف، ولا محاكاة منحرف، ولا تكسير الروادف والظهور، ولا نبذ التقاليد، ولا انكار الهوية والذات .. وهكذا يرفض شاعرنا التبعية بجميع انواعها وتجلياتها السياسية والثقافية والاجتماعية، وبحذر المرأة من الانخداع وراء سراب الانحرافات التي تتقنع بقناع الحضارة.

ويخطئ من يقرأ هدراوي للتسلية، فانه ليس من هولاء الادباء الفارغين، الذين يثرثرون بكلام يرتبونه الفاظا، ويزنونه بميزان الشعر، ثم لا يهمهم بعد ذلك ما يودعونه من الافكار والمعاني، ولا يعبرون الا عن معان سطحية لا ترقى بذوق الامة، ولا تحفزهم الى النهوض من كبوتهم، فالشاعر لا يعطي الا بقدر ما عنده من المعرفة والتجربة، وكان الهدراريّ مثقفا مفكرا، وله اطلاع واسع في فنون شتى من المعارف، فظهرت آثار هذه المعرفة في شعره، وتلك هي معنى العبقرية في اعماله الأدبية. كان الهدراري -رحمة الله- عليه من بقايا جيل العمالقة في الادب الصومالي، فكان يمثل لغة أمة وثقافتها وتقاليدها وتاريخها، ورحيله خسارة عظيمة اصابت امتنا في مقتل، واذا كانت السياسة قد تقزمت عندنا، وفرّقت شمل أمتنا، فان الهدراري وغيره من عمالقة الشعراء يمثلون ركنا ركينا لهوية امتنا وتماسكها، بما يمثلونه من مقومات الأمة من اللغة والثقافة والتاريخ والتراث، انه رجل بأمة ، وأمة في رجل. رحم الله استاذنا هدراوي، وأسكنه في عليين، ونوّر له قبره، وآنس وحشته، كما آنس وحشة كثير من عبادك. ترجل الفارس من صهوة جواده بعد حياة حافلة بالعطاء والإبداع، وبعد ان نثر الجمال اينما حلّ وارتحل، ترجل وقد أدى الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده، وكتب لنفسه الخلود، بما تركه لنا وللانسانية من تراث خالد، لا يبلى ابد الدهر، وما بقي على ظهر هده الدنبا نفس تشعر، وقلب يخفق، وروح تعشق الجمال وتهتز له.

 

عبدالواحد عبدالله شافعي